هناك المجتهد العامل برأيه الباذل لوسعه في استخراج الحكم ، أما الذي لا قدرة له ولا قابلية على استخراج الحكم فهو مُقلِّد .
وفي سياق حديثنا عن التقليد والمقلدة نشير إلى خطورة التقليد الأعمى المحرم عقلاً وشرعا ، المتأتي عن طريق الأخذ بقول قائل من عندياته وبناء على مزاجه ورأيه الشخصي ، فيما الأخذ بقول القائل لا من عندياته ، بل نقلا عن المتخصصين المدققين في العلم ، هو الذي صرح به الفقهاء وأوجوبه لغاية معرفية سامية .
إننا أمام نوعين من التقليد : - النوع الإيجابي الذي يتكامل فيه الإنسان ويتفاعل عبر عملية تقليد المفترض أن تفتح له طرح المزيد من الأسئلة بغية فتح مداركه على الحق وإعانته على التدرب على الروح القلقة التي تعيش هم السؤال والبحث والمعرفة ، لا الروح المنطوية والمنغلقة تماما عن الواقع .
فالتقليد بمعنى رجوع الجاهل إلى العالم يصبح طريقا لالتماس الأفكار والتعرف على قيمتها كما تعد طريقا لبعث الروح المسؤولة والملتزمة في الإنسان التي تحاول الإستفادة والانفتاح بطرق واعية ومدروسة تأبى المنطق التلقيني الجاف.
-النوع السلبي : حيث المقلدون يتلقنون الأحكام عن أصحابها الشخصيين تأثرا بهم من دون مطالبة بحجة أودليل بل سيراً على ما سارت عليه الجماعة المتلقنة.
لقد تناول هذا الموضوع العلامة الشيخ محمد جواد مغنية "رض" إذ قال في مقالة له :
" والمتدين عندما يؤدي عملا إنما يؤديه بدافع ثبوته في الدين مدعيا أن الدين نفسه أمره بذلك ولا ريب أنه يكون كاذبا ومفتريا على الله ورسوله في دعواه هذه إذا لم يتحقق من ثبوتها في الشريعة بأحد طرق الإثبات ، ومصادر الشريعة أربعة : كتاب الله ، وسنة نبيه ، والإجماع ، وأدلة العقل ، ولمعرفة الحكم الشرعي الثابت في هذه الأصول طريقان : - الطريق الأول : أن يكون للمتدين الأهلية التامة لاستخراج الحكم من دليله بنفسه وبلا واسطة ، ولا تتحقق هذه الأهلية إلا لمن عرف اللغة العربية من معاني الكلمات وهيئاتها وتراكيبها واطلع على كتب الشريعة ، وموارد إجماع العلماء والمشهور من أقوالهم ، وأتقن أصول الفقه اللفظية والعقلية ، ومتى تمت هذه المعلومات للمتدين استطاع بعد بذل الجهد في البحث والتنقيب ، وإمعان النظر أن يرد الفروع إلى أصولها ، والجزئيات إلى كلياتها ، ويستخرج الأحكام الشرعية من أدلتها وبهذا يصبح عالما مجتهدا يعمل برأيه ، ولا يرجع إلى غيره .
-الطريق الثاني : يختص بمن لا أهلية له لاستخراج الحكم الشرعي من دليله ، وقد عبر عنه الفقهاء بالمقلد ، والتقليد تارة يراد منه التقليد بالرأي ، أي الأخذ بقول القائل بصفته الشخصية دون أن يطالب بالحجة والدليل ، بل يجعل قوله " العندي" هو الدليل والحجة ، كما لو حكم إنسان بصحة شيء أو فساده ، لأن فلانا حكم بذلك بحيث يكون القول هو الدليل الوحيد لا غير ، وهذا هو التقليد الأعمى المحرم عقلا وشرعا وعرفا ، وهو المعني بما جاء في القرآن الكريم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ،قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون).
وتارة يراد بالتقليد الأخذ بالرواية أي الأخذ بما ينقله القائل عن غيره ، لا من عند نفسه ، كالأخذ بقول الطبيب أن هذا الشيء يحتوي على مادة كذا ، ويقول المحامي أن القانون ينص على كذا ، ويقول المهندس أن هذا الأساس يحمل طابقين من البناء أو أكثر ، وكأخذ القاضي بشهادة إلى من يعلم العدول ، والأعمى بقول البصير الذي يرشده إلى الطريق ، وما إلى ذلك من رجوع من لا يعلم ، وهذا النوع من التقليد وهو العمل بالرواية لا بالرأي هو الذي أوجبه الفقهاء ، فقد كانوا وما زالوا يرشدون الناس إلى ماثبت في كتاب وسنة رسوله لا إلى شيء من آرائهم وأقوالهم الخاصة ، فالجاهل يسأل العالم عن الحكم الثابت في الشريعة ، فيفتيه به ، ويرويه له لفظا أو معنى ، لقد أوجب الفقهاء السؤال على الجاهل للآية الكريمة "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وأوجبوا على العالم أن يجيب ويبين لقوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ". ( مجلة العرفان ، ج1، مجلد 42).
إن التقليد الفعال إعانة وتدريب على الخروج من مرحلة الضعف والعجز عن استخدام الفاهمة (القوة المدركة ) في ما يجيزه أولا يجيزه الآخرون ، حتى لو كانوا فقهاء إلى تفعيلها ومعالجة أسقامها ولن يكون ذلك إلا باستخدام السؤال ، كمفتاح لا مفر منه لبناء العملية المعرفية مهما كان مداها .
إن التقليد خطوة إلى الأمام وليس تراجع وتقوقع إنه دافع لإيجاد بداية حيوية ، لتنشيط الجاهل نحو جعله متعلما .
هنا تكمن أهمية فاهمة المقلد وقياس قيمتها بما استفادت منه من آفاق فتحتها على الأحكام والأفكار، التي تربيها حيث قداسة دور الفقهاء في مقدار توعيتهم للأمة وتربيتها والصبر على جهالها ، والأخذ بيدها من أجل بناء عقلها ونقلها من البدائية إلى مرحلة السؤال ؛ الذي هو فاتحة كتابة سجل الإنسان أمام الله والحياة.
الفقيه الحق ، هو الصبور الباذل وسعه وقصار جهده في تثقيف الجاهل ، وفتح مداركه ومتابعته ، والإشراف على المستحقين للعلم ، وبذل الغاية في ذلك ، وليس دور الفقهاء منحصر في تدوين الرسائل والمطولات الفقهية ورميها رميا للناس.
فغالباً تجربة الفقيه الحركية والعلمية في الواقع ومع الناس في شجونهم وشؤونهم على اختلافها هي من تكسب الفقيه بعداً وقيمةً وقداسة وأثراً نافعاً وطيباً في الدنيا وفي الآخرة .