ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين وجاء في خطبتيه
الخطبة الاولى
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.
نلتقي في السّابع من شهر ربيع الأوَّل، بذكرى وفاة واحد ممّن أشارت إليهم هذه الآية، وهو الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ (ع). وللتَّذكير، فقد لقِّب بالعسكريّ نسبةً إلى المكان الّذي عاش فيه، ويقال له العسكر، وهو أحد أحياء سامرَّاء الّتي كانت آنذاك عاصمة الخلافة العبَّاسيّة.
الحضورُ رغمَ الحصار
وقد عانى هذا الإمام خلال فترة إمامته الّتي امتدَّت لستّ سنوات، الحصار والتَّضييق والسّجن والتّشديد عليه، لمنعه من التَّواصل مع النّاس.
وقد تحدَّث (ع) عن حجم هذه المعاناة، عندما قال: “ما مُني أحدٌ من آبائي بمثلِ ما مُنيْتُ به”، حتّى إنّه كان يرسل إلى شيعته يوجّههم: “ألا لا يُسَلّمَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ، وَلَا يُشيرُ إِليَّ بيدِهِ، وَلَا يُومِئُ، فَإنَّكُمْ لَا تُؤمَنونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ”.
وهذا يشير إلى مدى مراقبة السّلطة العبّاسيّة لكلّ من كان يلتقي بالإمام، وحتّى من يسلّم عليه. ويعود ذلك إلى أنَّ الخلفاء العباسيّين كانوا يخشون من حضور الإمام العسكريّ (ع)، ومن الموقع الَّذي بلغه في قلوب النَّاس، لما كان يتميّز به من سعة العلم وحسن الخلق والتَّواضع والكرم والهيبة، ما جعله مهبط قلوب النَّاس جميعهم، ومهوى أفئدتهم، وموضع تقديرهم حتّى ممّن كانوا لا يلتزمون إمامته.
المكانةُ السَّامية
ونقف هنا عند نصّين يشيران إلى هذا الموقع الَّذي بلغه هذا الإمام في نفوس النَّاس، حتّى ممّن كانوا لا يلتزمون إمامته.
الأوَّل: ما ورد عن وزير الخليفة العبّاسي المعتمد عبيد الله يحيى بن خاقان، عندما سأله ولده أحمد عن سبب إجلاله وإعظامه للإمام الحسن العسكريّ (ع) عندما كان يلتقيه، أو عند الحديث عنه، رغم أنّه لم يكن من الموالين لأهل البيت (ع)، فقال له: “ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى مثل الحسن في هَديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته والسّلطان وجميع بني هاشم كافّة، وتقديمهم إيَّاه على ذوي السّنّ منهم والحظوة، وما سألت أحدًا من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر النّاس، إلَّا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرّفيع والقول الجميل…”. ثمّ قال له: “اعلم يا بُنيَّ، أنّه لَوْ زالَتِ الخِلاَفةُ عَنْ بَني العَبَّاسِ، مَا اسْتَحَقَّها أَحَدٌ غَيْرُهُ، لِفَضْلِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبادَتِهِ وَجَميلِ أَخْلاقِهِ وَصَلاحِهِ”. وهكذا كان والده، وكان أجداده.
أمَّا الثَّاني، فهو عندما طلب العبّاسيون من صالح بن وصيف الَّذي كان يتولّى أمر حبس الإمام العسكريّ (ع)، أن: “ضيّق عليه ولا توسِّع”، لمـّا رأوا من تهاونه في أمر حبس الإمام (ع)، فقال لهم: “ما أصنع به؟! قد وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه، فصارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم”.
لكنَّ كلّ المعاناة الّتي عاشها هذا الإمام، لم تمنعه من أن يقوم بدوره الرّساليّ، وقد عمل على أمرين: الأوَّل هو مواجهة الانحراف الفكريّ والعقائديّ، وعلى الصَّعيد التّشريعيّ، وتوجيه الأمَّة وتربيتها، والثّاني هو تهيئة الأمَّة وإعدادها لكيفيَّة التَّعامل مع غياب الإمام المهديّ (عج) ومواجهة التّحدّيات الّتي تحصل بعد ذلك.
ونحن اليوم سنستفيد من هذه المناسبة لنشير إلى بعض ما ورد عنه في هذا المجال:
صورةُ المؤمنِ عندَ الإمام
الحديث الأوَّل: هو قوله (ع): “المؤمنُ بشرُهُ في وجهِهِ، وحزنُهُ في قلبِهِ، أوسعُ شيءٍ صدرًا، وأذلُّ شيءٍ نَفْسًا“، وهو بذلك أراد أن يظهر الصّورة الّتي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، فالمؤمن عنده هو دائم الابتسامة، يبعث التَّفاؤل حيثما وُجِد، وهو الَّذي يحمل في قلبه همَّ النَّاس الَّذين يتألّمون ويعانون في الحياة، ويحزن لحالهم إن هم لم يستجيبوا للخطّ الإيمانيّ الَّذي رسمه الله عزَّ وجلَّ لهم، والّذي يضمن لهم الحياة الكريمة في الدّنيا والآخرة، وهو الَّذي يكون واسع الصّدر، لا يضيق صدره لما يصدر عن الآخرين تجاهه، بل يستوعب من يختلفون معه، وحتّى من يسيئون إليه، فلا يبادل السّيّئة بمثلها، بل يبادل بالسّيّئة الحسنة، ليوسّع دائرة حضوره وحضور ما يؤمن به، وهو من يتواضع، مهما علا شأنه في الموقع والمال أو السّلطة.
الأعظمُ شأناً عندَ الله
الحديث الثَّاني: “أعرفُ النَّاسِ بحقُوقِ إخْوانِهِ، وأَشَدُّهُمْ قَضَاءً لها، أعظَمُهُمْ عِنْدَ الله شَأنًا”. لقد بيّن الإمام (ع) من خلال هذا الحديث طريقًا يبلغ به الإنسان الشَّأن العظيم، والموقع الكبير عند الله، وهو أن يكون أعرف النَّاس بحقوق المؤمنين وأن يقوم بها.
وحقوق المؤمنين، كما وردت، هي إبداء النَّصيحة لهم، وإعانتهم عند الحاجة، ومشاركتهم في آلامهم وأحزانهم، والسّتر عليهم عند الزّلّة، وقضاء الدَّين، وإدخال السّرور عليهم، والدّعاء لهم في ظهر الغيب.
أهميّة قيام اللّيل
أمَّا الحديث الثَّالث فيما ورد عنه (ع)، فهو: “إنَّ الوصولَ إلى الله عزَّ وجلَّ سفرٌ لا يدرَكُ إِلَّا بامتطاءِ اللَّيلِ”.
وقد أراد الإمام (ع) أن يبيّن أنَّ الإنسان في حالة سفر يبغي من خلاله الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا السَّفر لا يمكن أن يحقّق الهدف منه إلّا بمركب خاصّ، وهو قيام اللّيل، والّذي أشار القرآن الكريم إلى أهميّته عندما قال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}، وأشارت إليه الأحاديث، ومنها: “إنَّ العَبدَ إذا تَخَلّى بِسَيِّدِهِ في جَوفِ اللَّيلِ الـمُظلِمِ وناجاهُ، أثبَتَ اللّهُ النّورَ في قَلبِهِ، فَإِذا قالَ: يا رَبِّ يا رَبِّ، ناداهُ الجَليلُ جَلَّ جَلالُهُ: لَبَّيكَ عَبدي، سَلني اُعطِكَ، وتَوَكَّل عَلَيَّ أكفِكَ. ثُمَّ يَقولُ جَلَّ جَلالُهُ لِمَلائِكَتِهِ: يا مَلائِكَتِي، انظُروا إلى عَبدي، فَقَد تَخَلّى بي في جَوفِ اللَّيلِ الـمُظلِمِ، وَالبَطَّالونَ لاهونَ، وَالغافِلونَ نِيامٌ، اِشهَدوا أنّي قَد غَفَرتُ لَهُ”.
وقيام اللَّيل هو أداء العبادة فيه، بقراءة القرآن الكريم، والاستغفار، وذكر الله، وأبرزها أداؤه لصلاة اللّيل.
تجنّبُ فضولِ الكلام
وفي حديثٍ رابعٍ عنه (ع): “أعظَمُ النَّاسِ قَدراً، مَنْ تَرَكَ مَا لَا يَعْنيهِ”، وهو بذلك يبيّن للإنسان المؤمن، أنَّه إذا أراد أن يكونَ له شأنٌ وقدرٌ عندَ الله عزَّ وجلَّ، فعليه أن يتورّعَ عن الكلام الّذي لا فائدة منه في الدّنيا أو الآخرة، والابتعاد عن كلّ ما لا يزيد من علمه ومعرفته، وما لا يزيد من علم الآخرين أو يرفع من مستواهم، وأن يتجنّب الدّخول في جدالات عقيمة لا تؤدّي إلى أيّة نتيجة. وهذا ما حذّر منه أمير المؤمنين (ع) ذلك الرّجل – وهو تحذير لنا أيضاً – عندما رآه يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه ثمّ قال: “يا هذا! إنَّك تُملي على حافظَيْكَ كتاباً إلى ربّكَ، فَتَكلَّمْ بما يَعنيكَ، وَدَعْ مَا لَا يَعْنيكَ”. وكان (ع) يقول: “عَجِبْتُ لِمَنْ يَتكلَّمُ بما لا يَنفَعُهُ في دُنياهُ، ولا يُكتَبُ لَهُ أجرُهُ في أُخراهُ”.
وفي الحديث عن الإمام الحسين (ع): “لا تَتَكَلَّمَنَّ فيما لا يَعنيكَ، فإنّي أخافُ علَيكَ الوِزرَ – فإنَّ أكثر النَّاس ذنوبًا، أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيهم – ولا تَتكَلَّمَنَّ فيما يَعنيكَ حتّى تَرى لِلكلامِ مَوضِعاً”.
الإخلاصُ للإمام (ع)
أيُّها الأحبَّة، إنَّ إخلاصنا لهذا الإمام في ذكرى ارتحاله عن هذه الدّنيا إلى ربّه، لن يكون بما اعتدنا عليه بإقامة المجالس على اسمه أو بزيارته فحسب، بل أن نقرن ذلك بـأن نعمل بكلّ القيم والمعاني الّتي دعا إليها، والَّتي لأجلها عانى وتألّم وقدَّم التّضحيات، أن نكون أمناء عليها، أن نعيها ونحرّكها في حياتنا وفي حياة الآخرين، وفي الوقت نفسه، أن نخلص لمن أبقاه لنا من بعده ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا.
فالسَّلام على الإمام الحسن العسكريّ يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يبعث حيًّا.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الحسن العسكريّ (ع)، عندما قال لأحد أصحابه: “أوصيك بتقوى الله، وإقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، فإنّه لا تقبل الصّلاة من مانعي الزّكاة، وأوصيك بمغفرة الذّنب، وكظم الغيظ، وصلة الرّحم، ومواساة الإخوان (في إشارة إلى المؤمنين، لأنَّ المؤمن أخو المؤمن)، والسّعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتّفقّه في الدّين، والتّثبّت في الأمور، والتّعاهد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر. قال الله عزّ وجلّ: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْـلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيم}، واجتناب الفواحش كلّها، وعليك بصلاة اللّيل، فإنّ النّبيّ (ص) أوصى عليًّا (ع)، فقال: يا عليّ، عليك بصلاة اللّيل، ثلاث مرّات، ومن استخفّ بصلاة اللّيل فليس منّا. فاعمل بوصيّتي، ومر شيعتي حتّى يعملوا عليه”.
هذه هي وصيَّة الإمام الحسن العسكريّ (ع) الَّتي أرادها أن تكون منهجًا لشيعته في السّلوك، وإخلاصنا له (ع) إنّما يكون بمقدار العمل بها، لنكون بذلك أوفياء له، وأكثر قدرةً على مواجهة التّحدّيات.
بين الاعتداءات والضّغط الأمريكيّ
والبداية من الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة على لبنان، عبر الغارات الّتي شهدناها بالأمس، والّتي استهدفت الجنوب والبقاع، أو عبر التّوغلات الّتي تطاول القرى المتاخمة للشَّريط الحدوديّ، لتفجير ما تبقّى من منازل، ولمنع أيّ مظاهر للحياة في داخلها، والّتي تأتي في إطار ما يهدف إليه العدوّ، وهو تفريغها من أهلها الَّذين يتمسّكون بالعودة إليها، أو البقاء فيها، تمهيدًا لتنفيذ مشروعه الهادف إلى خلق منطقة عازلة، والّتي تأتي بذريعة حماية مستوطناته، أو عبر المسيّرات الّتي تجوب المناطق اللّبنانيَّة، من دون أن يصدر أيّ موقف عن الدّولة اللّبنانيّة أو اللّجنة المكلّفة بالإشراف على وقف إطلاق النّار.
في هذا الوقت، جاءت زيارة المبعوث الأميركيّ الّذي كان يراهن الكثيرون أنّه سيحمل إلى لبنان رسالة إيجابيَّة من الكيان الصّهيونيّ، بأنّه سيقوم بتنفيذ ما عليه خطوة مقابل الخطوة الّتي أقدمت عليها الحكومة اللّبنانيّة بعدما أقرَّت حصريّة السّلاح بيد الدّولة وسحب سلاح المقاومة.
لقد جاءت زيارة هذا المبعوث لتؤكّد ما أشرنا إليه مرارًا، أن لا نيّة لدى الإدارة الأميركيّة للضّغط على الكيان الصّهيونيّ، وأنّ المطالب والأوراق الأميركيّة ليست سوى صدى لمطالب الكيان الصّهيونيّ ولحساب أمنه بعيدًا من حساب أمن لبنان. وهو بذلك يريد للبنان أن يفقد عنصرًا أساسيًّا من عناصر قوَّته، بسحبه لسلاح المقاومة، والّذي أربك كيان العدوّ، وهدّد عمقه بدون مقابل، وأن ينقل المعركة إلى الدّاخل اللّبنانيّ، لتكون بين الجيش اللّبنانيّ والمقاومة، أو بين اللّبنانيّين بفعل الانقسام الحاصل حول ذلك.
لقد أصبح واضحًا أنَّ ما جاء به المبعوث الأميركيّ قد بني على قاعدة أنَّ لبنان بلد مهزوم، وأنّه يملى عليه، ولا يحقّ له حتّى أن يناقش، وعليه أن ينتظر ما يُتصدَّق به عليه، ولذلك شهدناه يتصرّف ويخاطب اللّبنانيّين لا كمبعوث دبلوماسيّ، بل كسلطة وصاية تريد أن تفرض هيمنتها على كلّ مواقع القرار اللّبنانيّ.
حمايةُ السّيادةِ وتجنُّبُ الفتنة
إنّنا أمام ما يجري، نعيد دعوة الحكومة اللّبنانيّة إلى أن يكون موقفها إزاء كلّ ما يجري نابعًا من حرصها على سيادة هذا الوطن وكرامته وحرّيّته، وأن تكون أمينة على كلّ التّضحيات الجسام الّتي بذلت ولا تزال تبذل في هذا الطَّريق.
إنَّ على الجميع أن يعرف أنَّ لبنان رغم كلّ الّذي جرى له، ليس ضعيفًا بحيث يطلب منه أن يقدّم التّنازلات المذلّة، فتاريخه شاهد على أنّه لم يقبل يومًا أن يعطي إعطاء الذَّليل وأن يقرّ إقرار العبيد، صحيح أنَّ هذا الخيار قد يكون مكلفًا، لكن بهذا المنطق تصان الأوطان وتحمى، وتتحقّق السّيادة على أرضها.
في الوقت الّذي نجدّد دعوتنا لكلّ المواقع للعودة إلى التّواصل، واعتماد لغة الحوار، والعمل سويًّا للوصول إلى صيغة تضمن حماية البلد من الأخطار الَّتي تحدق به وتحفظ سيادته على أرضه، ووقايته من أيّة فتنة يراد لها أن تحصل بين اللّبنانيّين، أو بين الجيش والمقاومة، ونجدّد ثقتنا باللّبنانيّين، بأنّهم ورغم الخلاف الحاصل على خيارات التَّعامل مع الكثير من القضايا، لن يسمحوا للفتنة بأن تحصل بينهم، وهم من عاشوا أهوالها ومخاطرها، وعانوا ولا يزالون يعانون تداعياتها.
في الوقت الَّذي نعيد التَّشديد على ضرورة تعزيز الوحدة الدَّاخليَّة، والعمل على حمايتها، والوقاية من أيَّة فتنة، من خلال نزع فتيل ما قد يتسبَّب بها. ومن جهتنا، كما كنّا، سنبقى الأمناء والحريصين على هذه الوحدة، ولن نسمح بمن يتهدَّدها أو يسعى لاستغلال أيّ ثغرة يراد أن ينفذ من خلالها.
أطماعٌ صهيونيَّةٌ في سوريا
ونبقى في سوريا، الّتي لا يزال العدوّ يعمل على إضعافها من خلال الغارات الّتي يشنّها عليها، والّتي شهدناها ونشهدها، أو من خلال سعيه لتقسيم سوريا تحت عنوان حماية الأقليَّات، وكما يحصل اليوم في السّويداء، وقد يحصل في أماكن أخرى، بغية إضعاف هذا البلد وأن لا تقوم له قائمة، وبصرف النّظر عن أيّ حكم يتولّاه.
إنَّ ما يجري في سوريا دليل إضافيّ على أنَّ هذا الكيان لا حدود لأطماعه التَّوسعيّة ومشروعه التَّقسيميّ، والّتي لن يحول دون تحقيقها إلّا العمل على تعزيز عناصر الوحدة بين مكوّنات هذا البلد، وإزالة الغبن الَّذي قد تشعر به طائفة أو مذهب أو قوميَّة.
حربُ الحصارِ والإبادة
ونصل إلى غزّة الّتي يستمرّ العدوّ الصّهيونيّ في مشروعه التّدميريّ لها، وحصاره الّذي لم يشهد العالم مثله في التّاريخ المعاصر، وقتله المتعمّد للصّحافيّين وكلّ من يحاول نقل الحقيقة وبثّ الصّورة إلى خارج القطاع.
لقد بات العالم يدرك أنَّ ما يقوم به العدوّ لا يهدف من ورائه استعادة رهائنه، بل هي حرب إبادة وتجويع هدفها تهجير الفلسطينيّين وطردهم من أرضهم وإنهاء القضيّة الفلسطينيّة، وهو ما يستكمله في الضّفّة الغربيّة، عبر تركيزٍ وتوسعةٍ للاستيطان وعمليّات اغتيالٍ للفلسطينيّين.
ذكرى تغييبِ الصَّدر
وأخيرًا، إنّنا في الذّكرى السّنوية لتغييب الإمام السّيّد موسى الصّدر ورفيقيه، وهو الّذي مثّل في حياته عنوانًا جامعًا للّبنانيّين، وعاملًا للوحدة فيما بينهم، وأن لا تعبث بهم الغرائز الطّائفيّة والمذهبيّة، وبأن يكون هذا البلد لكلّ أبنائه وخاليًا من الحرمان، في الوقت الّذي وقف إلى جانب القضايا العربيّة والإسلاميّة، وعاملًا لتوحيدها، وكان سندًا لقضيّة فلسطين، ودفع الثّمن غاليًا لإخلاصه ووفائه لكلّ هذه القضايا.
إنّنا في هذه المناسبة، ندعو مجدّدًا الدّولة اللّبنانيّة وكلّ الحريصين على هذا البلد، إلى العمل للأهداف الّتي عمل لها، والكشف عن ملابسات هذه الجريمة الّتي لا تمثّل إساءةً إلى طائفة بعينها، بل إلى اللّبنانيّين والعرب والمسلمين والأحرار جميعًا.