ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبتيه :
الخطبة الاولى :
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} صدق الله العظيم.
مرّت علينا في الثّاني عشر، وستمرّ في السَّابع عشر من شهر ربيع الأوّل، وعلى اختلاف الرّوايات، ذكرى ولادة من أرسله الله للنّاس كافّة، ليكون لهم {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}، وقد أتمّ رسالته، وبلّغ الدَّعوة، ونصح المسلمين، وبلغ بهم أن يكونوا خير أمَّة أخرجت للنَّاس، وهذا ما نشهد له به، عندما نقول في زيارته: “نشهد أنَّك قد بلّغت الرّسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده، حتّى آتاك اليقين”.
تربية إلهيَّة
وقد حظي النّبيّ (ص)، ومنذ نعومة أظفاره، بتربية الله عزّ وجلّ له، فقد صنعه الله على عينه، وهذا ما أشار إليه الله عزّ وجلّ عندما قال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، وعندما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، وفي ذلك قول رسول الله (ص): “أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي”، وقول أمير المؤمنين (ع): “ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيمًا، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَه ونَهَارَه”.
وقد عبّرت سيرته عن مدى الصّفات الّتي تميّز بها (ص)، والّتي فتحت قلوب النّاس عليه وعلى رسالته، والّتي أشار الله عزَّ وجلَّ إليها عندما قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
الرّحيم بالنّاس
ونحن اليوم، سنتوقَّف عند واحدة من هذه الصّفات الّتي تميّز بها رسول الله (ص)، وهي الرَّحمة، والَّتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وفي ذلك، نزلت الآية الَّتي تلوناها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، والّتي أظهرت مدى محبَّة رسول الله (ص) للنَّاس وحرصه عليهم ورأفته ورحمته بهم.
وهذا ما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، والّتي تثبت أنّ رسول الله (ص) لم ينجح فقط في أداء دوره لأهميّة ما جاء في رسالته، أو لإعانة الله له، بل لأنّه ملك قلبًا محبًّا حتّى مع الّذين وقفوا في وجهه وآذوه. وقد عبّر الله عن ذلك في حديثه عنه وعن أصحابه، عندما قال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
مواقف عمليَّة لرحمته (ص)
ونحن اليوم سنشير إلى بعض المواقف الّتي أشارت إلى هذه الرَّحمة وإلى ما أدّت إليه.
الموقف الأوَّل: حصل في معركة أحد، عندما أصيب رسول الله (ص) فيها وكسرت رباعيَّته وشجَّ رأسه، واستشهد خلالها عمّه الحمزة، ومُثّل بجسده الشَّريف، ومعه العشرات من أعزّ أصحابه. يومها، جاء إليه بعض أصحابه وقالوا له: يا رسول الله، ادع عليهم بعذاب من عنده كما عذَّب المشركين الأوائل عندما دعا أنبياؤهم عليهم، ودعاؤك مستجاب يصل إلى الله عزّ وجلّ، ولا حواجز تقف أمامه. فقال لهم: “إنّي لم أُبعث لَعّانًا، ولكنّي بُعثت داعيًا ورحمةً”، لذا ما كان يكفّ عن دعائه لهم بالقول: “اللَّهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون”.
الموقف الثّاني: بينما كان رسول الله (ص) جالسًا بين أصحابه، أقدم رجل يهوديّ يدعى زيد بن سعنة على شدّ النبيّ (ص) من مجامع ثوبه شدًّا عنيفًا، وقال له: أوفِ ما عليك من الدَّين يا محمَّد، إنّكم يا بني هاشم قوم تماطلون في أداء الدَّين. وكان رسول الله (ص) يومها قد استدان من اليهوديّ بعض الدَّراهم لحاجته، ولكن لم يكن قد حان بعد موعد سدادها، فأخذ رجل من صحابة رسول الله (ص) سيفه يريد ضرب عنق اليهوديّ، بعد صدور هذه الإساءة منه بحقّ رسول الله (ص)، لكنّ رسول الله (ص) نهاه عن ذلك وقال له: “مره بحسن الطَّلب، ومرني بحسن الأداء”، عندها، وأمام هذا الموقف، قال له اليهوديّ: والّذي بعثك بالحقّ يا محمّد، ما جئت لأطلب منك دينًا، إنّما جئت لأختبر أخلاقك، فأنا أعلم أنَّ موعد الدَّين لم يحن بعد، ولكنّي قرأت جميع أوصافك في التَّوراة، فرأيتها كلّها متحقّقة فيك، إلّا صفة واحدة لم أجرّبها معك، وهي أنَّك حليم عند الغضب، وأنَّ شدَّة الجهالة لا تزيدك إلّا حلمًا، ولقد رأيتها فيك الآن. وأسلم بعدها اليهوديّ بين يدي رسول الله (ص)، واستشهد في إحدى معاركه.
ولعلّ الموقف الأبرز للرَّحمة من رسول الله (ص)، ما حصل بعدما فتح رسول الله (ص) مكَّة ودخل إليها بجيشه الجرّار، يومها، جاءت إليه قريش برجالها ونسائها ينتظرون قراره فيهم، وما هو فاعل بهم، بعد كلّ الأذى الّذي حصل منهم تجاهه وتجاه أصحابه الّذين استشهد منهم من استشهد، وأوذي من أوذي، وبعد إصرارهم على قتله وإخراجه من مكّة، والّتي كانت أحبّ البلاد إليه، والحروب الّتي شنّوها عليه وعلى المسلمين معه، وقال لهم يومها: “يا معشرَ قريشٍ، ما ترَونَ أنِّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ”، لمعرفتهم برحمته ومدى كرمه، فقال: “اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ”، ولم يتعرّض لأحد منهم، وحتّى لم يطلب منهم أن يسلموا، ولم يكتف بذلك، بل أوصى أصحابه بأن لا يريقوا دم إنسان مهما كان تاريخه، وبذلك سجَّل أروع مثل في العفو والمغفرة والتّسامح.
والموقف الأخير هو ما ورد في سيرته (ص)، والَّتي أشارت إلى أنّه كان إذا أراد أن يبعث سريَّة للحرب، يجلسهم بين يديه ويقول لهم: “سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا صبيًّا ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرًا إلَّا أن تضطرّوا إليها… ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرًا”.
التّأسّي برسول الله (ص)
أيُّها الأحبَّة، إنّنا معنيّون في ذكرى ولادة رسول الله (ص)، أن نثبّت هذه القيمة في نفوسنا، وأن نعزّزها في كلّ واقعنا، بأن تكون طابع حياتنا، في بيوتنا، ومع جيراننا وأرحامنا، وفي مواقع عملنا، أن نحملها للنّاس جميعًا، حتّى من تباعدوا عنّا، حتّى الّذين نختلف معهم في الدّين أو المذهب أو السّياسة، لتبلغ قلوبهم، حيث لا يمكن أن نبلغها بالكلام القاسي وسوء التّعامل، وأن نتخلَّق بأبرز أخلاق الله، عندما وصف نفسه بالرّحمن الرّحيم، وأن نتأسّى برسول الله (ص) الَّذي دعانا القرآن الكريم إلى التأسّي به، عندما قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِر{، وحتّى نحظى بما وُعِدَ به الرّاحمون، حيث ورد في الحديث: “الرَّاحمون يرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ”، “عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم من دونه”.
وهذا لا يعني رفض القسوة مطلقًا، فقد نضطرّ إليها، وقد تكون ضروريّة لنواجه ظواهر الانحراف والظّلم والفساد والاحتلال، وهذا ينبغي أن يكون بعد استنفاد كلّ سبل الرّحمة، وأن تكون هي العلاج، وحالنا معها حال الجرَّاح الّذي نلجأ إليه عند الضّرورة، للتّخلّص من ألم الجسد، وتحقيق الشّفاء للمريض.
وفّقنا الله لأن نكون ممّن امتلأت قلوبهم بالرَّحمة ووُصفوا بالرَّاحمين.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عباد الله، أوصيكم بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
أيُّها الأحبَّة: إنّنا أحوج ما نكون في ذكرى ولادة رسول الله (ص) إلى أن نتوحَّد به، ونحن وإن كنّا نختلف على تاريخ ولادته، لكنّنا لا يمكن لنا أن نختلف على أنّه نبيّ المسلمين جميعًا، ومظهرٌ سياسيّ لوحدتهم.
وإذا كنّا ندعو إلى الوحدة الإسلاميّة، فهذا لا يعني أن يتنكّر كلّ لمذهبه وقناعته، بل لنؤكّد من خلالها مواقع اللّقاء، وأن نعمل معًا للأهداف الّتي جاء لأجلها رسول الله (ص)، والّتي هي قيم العدل والحريّة والإخاء الإنسانيّ، لنكون كما أرادنا الله {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ونكون بذلك قادرين على مواجهة التّحدّيات.
تصاعد العدوان
والبداية من لبنان، والّذي يشهد تصعيدًا إسرائيليًّا في الغارات الّتي استهدفت العديد من البلدات الجنوبيّة، وعمليّات الاغتيال والمسيّرات التّجسسيّة الّتي لا تفارق سماء لبنان، مع استمرار العدوّ في استهداف أيّ مظهر من مظاهر الحياة وإعادة الإعمار في القرى المتاخمة للشّريط الحدوديّ، وحتّى خارجها.
وهنا نعيد مرّة جديدة، دعوة الدّولة اللّبنانيّة إلى القيام بالدّور المطلوب، واتّخاذ خطوات فاعلة تثبت للّبنانيّين عمومًا، ولأهل الجنوب خصوصًا، بأنّها تبذل الجهود المطلوبة منها لمنع العدوان وردّه، وأنّها لن تألو جهدًا لإيقاف هذا النَّزف المستمرّ، وأنّها لن تكتفي في تأدية دورها ببيانات إدانة، إن حصل منها ذلك، لتعيد ثقة اللّبنانيّين بها.
مسؤوليَّة تاريخيَّة أمام الحكومة
في هذا الوقت، نتطلّع، كما يتطلّع اللّبنانيّون، إلى ما ستفضي إليه الجلسة الّتي ستعقدها الحكومة اليوم، وما ستسفر عنه في ضوء القرارات الّتي كانت قد اتّخذتها، رغم الاعتراض الّذي جرى من داخل الحكومة ومن خارجها.
وهنا وللتّوضيح، إنَّ من عارضوا القرار لم يعارضوا مسألة حصريّة سلاح الدّولة الّتي لها الحقّ بأن تبسط سلطتها على كلّ الأراضي اللّبنانيّة، بل أرادوا أن يحصل ذلك بعد ضمان إيقاف العدوّ لاعتداءاته، وانسحابه من الأراضي الّتي لا يزال يحتلّها، والّتي تشير كلّ الوقائع إلى أنّه لن ينسحب منها، واستعادة الأسرى اللّبنانيّين الّذين يقبعون في سجون الاحتلال، وبعد التّوافق على استراتيجيّة أمن وطنيّ يحمي لبنان من عدوّ لا يخفي أطماعه التّوسعيَّة، وحتّى يتحقّق ذلك، لا يمكن للبنان أن يفرّط بموقع من مواقع القوَّة الّتي يخشاها العدوّ.
ونحن، وفي كلّ ما سيجري في جلسة اليوم، ندعو الحكومة الّتي ستدرس الآليّة الّتي سينفّذ من خلالها الجيش قرارها الّذي كانت قد اتّخذته سابقًا، أن تناقش بعمق ومسؤوليَّة هذه القضيَّة، وأن ينبع قرارها من الحرص على الوحدة داخل الحكومة، ولا يؤدّي إلى تعميق الانقسام داخلها وخارجها، وما يتركه من تداعيات في الدّولة، وأن لا يشكّل تنفيذه إحراجًا للجيش اللّبنانيّ، لكونه سيجعله في مواجهة وصدام مع شريحة واسعة من اللّبنانيّين، ممّن لديهم القناعة في ضرورة تجميده في ظلّ بقاء العدوّ على احتلاله واعتداءاته، وهو صدام لا يريده المعترضون، لحرصهم على حفظ الجيش وصونه من كلّ ما يعرّضه لأيّ انتكاسة، لوعيهم أنَّ أيَّ صدام داخليّ يصبّ في مصلحة الكيان الصّهيونيّ الّذي يعمل جاهدًا لتحقيق ذلك، ما يكرّس احتلاله للأراضي الّتي هو فيها.
إنّنا لا نريد أن نهوّن من حجم الضّغوط الّتي تمارس على الحكومة اللّبنانيَّة، والّتي نشهدها بكلّ وضوح من خلال ما صدر عن المبعوث الأميركيّ، أو الّتي جاءت أخيرًا على لسان وزير حرب العدوّ الّذي هدَّد لبنان بأن يقوم الكيان الصّهيونيّ بتنفيذ سحب سلاح المقاومة إن لم تقم الدّولة به، ولكن هذا لا يدعو الحكومة اللّبنانيّة إلى الرّضوخ إلى الضّغوط، والانصياع لإرادة من يتعاملون مع لبنان بأنّه مهزوم، وعليه أن يقبل بتداعيات هزيمته، بل إلى موقف لبنانيّ موحَّد يأخذ بعين الاعتبار ما يؤمّن حفظ البلد وسيادته على الأرض، ويحول دون بقائه في دائرة الأخطار المحدقة به، ونحن نأمل بأنّ الحكم والحكومة سيجدان المخارج الحكيمة الّتي تؤمّن حصول ذلك.
تعميق الوحدة بين اللّبنانيّين
ويبقى علينا في هذا المجال أن نعيد التّأكيد على ضرورة تعميق الوحدة بين اللّبنانيين، وعلى صعيد ساحتنا الدّاخليّة، والعمل لإزالة كلّ أسباب التّوتّر والفتنة داخلها، في الوقت الّذي ندعو إلى الالتزام بالضّوابط الوطنيّة والأخلاقيّة فيما نطلقه من خطاب سياسيّ، بالابتعاد عن كلّ خطاب يسهم في إثارة النّعرات الطّائفيّة والمذهبيّة، والّذي يولد التّوتّرات ويعمّق الهواجس الّتي يراد لها أن تغرق هذا البلد في الفوضى، ليسهل على الّذي يريد إقامة الحواجز بين اللّبنانيّين أن يحقّق أهدافه. ولذلك نقول: كلّ من لديه كلمة طيّبة فليقلها، وكلّ من لديه كلمة توتّر العلاقة بين اللّبنانيّين فليكفّ عنها، وكما قال رسول الله (ص): “قل خيرًا أو اصمت”.
الضّفّة والقدس تحت الخطر
ونصل إلى غزّة الّتي لا يكفّ العدوّ عن استمرار حرب الإبادة عليها، والاستعداد للأسوأ باقتحامها، وهو يعدّ العدّة لذلك، وهو في ذلك لا يبالي بكلّ الأصوات الّتي تدينه، ما دام يحظى بالتّغطية الدّوليَّة الكافية الّتي تجعله بمنأى عن عن أيّ محاكمة، فيما المخاطر تقترب من الضّفّة الغربيَّة والقدس الّتي يراد إلحاقها بهذا الكيان… ولذلك، فانّنا ندعو مجدّدًا الدّول العربيّة والإسلاميّة وكلّ شعوبنا، إلى الضّغط بكلّ الوسائل لمنع العدوّ من تحقيق ما يصبو إليه، للحؤول دون تحقيق مآربه على صعيد القضيّة الفلسطينيّة، والمسّ بأمن المنطقة وسلامة شعوبها ومكوّناتها.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} صدق الله العظيم.
مرَّت علينا في السَّابع عشر من هذا الشَّهر المبارك، شهر ربيع الأوَّل، ذكرى الولادة المباركة للإمام السّادس من أئمَّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (ع)، هذا الإمام الَّذي عرف بالعلم والحلم والعبادة وحسن الخلق والبذل والعطاء والكرم، وبانفتاحه على بقيّة المذاهب الإسلاميّة، وبحواريّته، حتّى إنّه عدّ إمام الحوار.
نَشْرُ علومِ أهلِ البيت (ع)
فقد عاش الإمام الصَّادق (ع) في مرحلة ما بين أفول الحكم الأمويّ وبداية ظهور الحكم العبّاسيّ، ما أتاح له قدرًا من الحريّة مكَّنه من أن يعبّر عن آرائه وأفكاره، وأن ينشر علوم أهل البيت (ع) وأحاديثهم ممّا لم يتوفّر لبقيَّة أهل البيت (ع).
وقد أشار إلى ذلك الشّيخ المفيد، وهو من كبار العلماء السَّابقين، فأبرزَ أهميَّة الدَّور العلميّ للإمام، وقال: “لقد نقل عن الإمام الصَّادق (ع) من العلوم ما سارت به الرّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ما لم ينقل عن غيره من أئمَّة أهل البيت (ع)”.
وقد ورد في سيرته (ع)، أنَّه تتلمذ على يديه أبرز أئمّة المذاهب الإسلاميَّة، وفي ذلك، ما ورد عن أبي حنيفة النّعمان: “لولا السَّنتان لهلك النّعمان”، وهما السَّنتان اللَّتان تتلمذ فيهما على يد الإمام (ع).
وقول الإمام مالك بن أنس إمام المذهب المالكيّ: “ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمَّد الصَّادق علمًا وعبادة وورعًا”.
وقد نقل أحد الرّواة، وهو الحسن بن عليّ الوشاء، عن الأثر الّذي تركه الإمام (ع) على الصّعيد العلميّ، أنّه دخل مسجد الكوفة بعد وفاة الإمام الصَّادق (ع) بعشرين سنة، فوجد فيها تسعمائة شيخ – أي عالم – كلّهم يقولون: حدَّثني جعفر بن محمَّد الصَّادق.
ونحن اليوم سنستفيد من هذه الذّكرى لنشير إلى بعض مواقف هذا الإمام (ع):
تحذيرٌ من رمي المحصنات
الموقف الأوَّل: كان للإمام الصَّادق (ع) صديق لا يكاد يفارقه، غضب هذا الصَّديق يومًا على أحد عمَّاله، فقال له: يا بن الفاعلة؟ وفي ذلك ما يشير إلى أنَّ أمَّه ارتكبت فاحشة الزّنا.. فلمّا سمعه الإمام (ع)، رفع يده فصكَّ بها جبهته، ثمّ قال: “سبحان الله! تقذف أمَّه؟! قد كنت أرى أنَّ لك ورعًا، فإذا ليس لك ورع”. قال: جعلت فداك، إنَّ أمَّه سنديَّة مشركة، فقال: “أما علمت أنَّ لكلِّ أمَّة نكاحًا يحتجزون به من الزّنا؟!”.
يقول راوي الحديث: فما رأيته يمشي معه حتّى فرَّق الموت بينهما.. أي أنَّ الإمام قاطعه بعد هذا الموقف لخطورة ما صدر عنه، والَّذي مع الأسف، بتنا نراه طبيعيًّا في واقعنا.
لقد أراد الإمام (ع) من خلال موقفه هذا، أن يحذّر الإنسان من أن يطلق الكلام جزافًا، من دون أن يتثبّت مما يؤدّي إليه كلامه، ولا سيَّما إذا كان هذا الكلام يمسّ عرض الآخر أو كرامته، أو ينعته بصفات ليست عنه، وأن ينطلق كلامه من الحقيقة، وهو ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى عندما قال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
حلُّ الخلافاتِ بينَ المؤمنين
الموقف الثّاني: حصل عندما مرَّ المفضل بن عمرو، وهو أحد أصحاب الإمام الصَّادق (ع)، على رجلين يتشاجران، فوقف عندهما لمعرفة سبب الخلاف، فلمَّا علم أنَّ سبب الخلاف هو على ميراثٍ لهما من أبيهما، دعاهما إلى منزله، وأعطاهما من المال ما أرضاهما به، وكان المبلغ كبيرًا، فشكراه على ذلك، لكنَّ المفضل سارع إلى أن يقول لهما: إنَّ ما فعلته ليس من مالي، بل هو مال أودعه عندي الإمام جعفر بن محمَّد الصّادق (ع)، فهو قال لي: هذا المال دعه عندك، فإن رأيت خلافًا بين أصحابنا في شيء وكان حلّه بالمال، فابذل من هذا المال للإصلاح بينهم.
لقد أراد الإمام (ع) من خلال ذلك أن يبيّن الصّورة الّتي يريد لأتباعه أن يكونوا عليها؛ هو يريدهم أن يسارعوا إلى إطفاء نار أيّ خلاف يحدث داخل البيوت أو في الأحياء والقرى، سواء كان مذهبيًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا، أو على أمر ماليّ، ولو اقتضى ذلك أن يبذل الرَّجل ماله أو جهده، والَّذي دعا إليه الله سبحانه وتعالى واعتبره واجبًا، عندما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وقد اعتبره الحديث أفضل من الصَّلاة والصّيام، ففي الحديث: “إصلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصَّلاة والصَّوم”.
ثلاثُ خصال للمؤمن
الموقف الثَّالث: والَّذي ورد في حديثٍ له عندما تحدَّث عن ثلاث خصال دعا إليها المؤمنين، وقد اعتبرها من أشدّ ما افترض على عباده، فقال: “ثلاث خصال هنّ أشدّ ما عمل به العبد؛ إنصاف المؤمن نفسه – بأن يحبّ المؤمن لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها – ومواساة المرء لأخيه – بأن يقف مع أخيه المؤمن وقت الشدّة، وعندما تواجهه المصاعب أو تعصف به التّحديات، بأن لا يدعه يواجه آلامه وأحزانه وحده، بل يقف معه ويخفّف عنه بالكلمة الطيّبة، والّذي أشار إليه رسول الله (ص) عندما قال: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ، إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ، تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”. والخصلة الثّالثة – وذكر الله على كلّ حال”، فإن عرضت له طاعة لله عمل بها، وإن عرضت له معصية تركها.
الدّعاء في الرزق
الموقف الرّابع: حصل عندما قال أحد أصحاب الإمام الصَّادق (ع) له: ادع الله أن لا يجعل لي رزقي على أيدي العباد، فقال (ع): “أبى الله عليك ذلك، إلّا أن يجعل رزق العباد بعضهم من بعض – فالله أجرى الأمور بأسبابها، ومن الأسباب، أن يسعى الإنسان برزقه لدى من يملكون الرّزق – لكن ادع الله أن يجعل رزقك على أيدي خيار خلقه، فإنَّه من السَّعادة، ولا يجعله على أيدي شرار خلقه، فإنّه من الشَّقاوة”، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: “اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ لِـفَاجِـرٍ وَلا كَافِرٍ عَلَيَّ مِنَّةً، وَلاَ لَـهُ عِنْدِي يَدًا، وَلا بِي إلَيْهِمْ حَاجَةً، بَل اجْعَـلْ سُكُـونَ قَلْبِي، وَأنْسَ نَفْسِي، وَاسْتِغْنَـائِي وَكِفَايَتِي بِكَ وَبِخِيَـارِ خَلْقِكَ”.
الاقتداء بالإمام (ع)
أيُّها الأحبَّة: هذه المواقف هي بعض من سيرة الإمام الصَّادق (ع)، والّتي أظهرت لنا مدى إنسانيَّة هذا الإمام، والسّلوك الَّذي أراده للمؤمنين، والَّذي به يظهرون إيمانهم، وحرصه أن لا يُتَّهم إنسان بالباطل مهما كان موقعه، وعلى معالجة الخلافات الّتي تحدث داخل المجتمع وعدم تركها تتفاعل.
إنّنا مدعوّون في ذكرى ولادة هذا الإمام، إلى الأخذ بهذه المعاني في واقعنا ومجتمعنا، والّتي بها نعبِّر عن حقيقة حبِّنا وولائنا له (ع)، وعن التزامنا بما دعا إليه.
لقد غادر الإمام الصَّادق (ع) الحياة وعينه على شيعته، يريد منهم أن يكونوا أينما حلّوا، وحيثما كانوا، علامة فارقة بين النَّاس وقدوة لهم، ولذا كان يقول: “إنّ الرّجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ (ع) فيكون زينها؛ أدَّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه، ويقولون: من مثل فلان؟ إِنَّه أدَّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث”.
فلنكن على مستوى آمال هذا الإمام (ع)، والَّتي هي آمال رسول الله (ص)، وما يريده الله سبحانه، والَّتي بها نعبِّر عن حقيقة ولائنا لله ولرسوله ولأهل البيت (ع).
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة الإمام جعفر الصَّادق (ع): “أكثروا من الدّعاء، فإنَّ الله يحبّ من عباده الَّذين يدعونه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، والله مصيّر دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم، عملًا يزيدهم به في الجنَّة. وأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كلِّ ساعة من ساعات اللَّيل والنَّهار، فإنَّ الله أمركم بكثرة الذكر له، والله ذاكر من ذكره من المؤمنين. وعليكم بالمحافظة على الصَّلوات والصَّلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين. وإيَّاكم أن يبغي بعضكم على بعض، فإنَّه من بغى صيَّر الله بغية على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بغي عليه. وإيَّاكم أن يحسد بعضكم بعضًا، فإنَّ الكفر أصله الحسد. إيَّاكم أن تشره نفوسكم إلى شيء مما حرَّم الله عليكم، فإنَّه من انتهكَ ما حرَّم الله عليه ها هنا في الدّنيا، حال الله بينه وبين الجنَّة ونعيمها ولذَّتها وكرامتها”.
أيُّها الأحبَّة: إنَّنا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا، لنهتدي بها، ونجعلها زادًا لنا في الدّنيا، وسبيلًا لنا في الآخرة، وبها نعبِّر عن حبِّنا وولائنا لهذا الإمام، ونصبح أكثر وعيًا ومسؤوليَّة وقدرةً على مواجهة التّحدّيات…
العدوان.. ومسؤوليَّة الدَّولة
والبداية من العدوان الإسرائيليّ المستمرّ على لبنان، والَّذي شهدناه أخيرًا في الغارات الّتي شنّت على الجنوب والبقاع، وعمليّات الاغتيال الّتي يبدو أنّها لن تتوقّف، وفي منعه لأيّ مظهر لإعادة الحياة إلى القرى الحدوديّة، والّتي وصلت إلى تفجير مؤسّسة للاحتياجات الخاصّة في بلدة عيتا الشّعب، فيما تتوالى التّهديدات الإسرائيليّة عبر تصريحات قادته بضرب أهداف في لبنان، وفي التّدريبات الّتي يجريها جيش العدوّ على مقربة من الحدود اللّبنانيّة، في مواقع تحاكي قرى لبنانيّة، بهدف توغّلات جديدة قد يقدم عليها هذا العدوّ.
ما يدعو مجدّدًا الدّولة اللّبنانيّة إلى الأخذ في الاعتبار كلّ ما يجري، والقيام بالدّور المطلوب منها، واستنفار جهودها لإيقاف نزيف الدّم والدّمار هذا، والّتي لا ينبغي أن تقف عند حدود إصدار بيانات إدانة، رغم أهميّتها، وذلك لفضح ممارسات هذا الكيان تجاه هذا البلد، بل أن يتعدَّى ذلك إلى عمل جادّ يشعر معه اللّبنانيّون بأنّهم أمام دولة أخذت دورها وباتت تتحمّل مسؤوليّتهم، ولا تدير ظهرها لمعاناتهم، بحيث يمرّ الّذي يجري مرور الكرام.
وسط هذا الجوّ، اجتمعت الحكومة اللّبنانيّة في الأسبوع الماضي للاستماع إلى الخطّة الّتي سيعتمدها الجيش اللّبنانيّ لحصريّة السّلاح بيد الدّولة، والّذي كنّا أبدينا خشيتنا من أن تؤدّي إلى انزلاق البلد إلى ما لا تحمد عقباه.
ولكنَّ الحكمة الّتي تجلَّت في هذه الجلسة، أدّت إلى تبريد الأجواء، والّتي نأمل أن لا تكون بمثابة هدنة مؤقّتة، بل أن تستكمل بحوار جادّ وموضوعيّ داخل الحكومة وخارجها، يأخذ في الاعتبار مصلحة البلد، ويهدف للتوصّل إلى استراتيجيّة أمن وطنيّ تقيه من كلّ المخاطر الّتي تحدق به في الدّاخل والخارج، وتجعله قادرًا على مواجهات التّحديات الّتي تنصب أمامه في هذه المرحلة، والّتي قد تتفاقم في المستقبل.
لقد أصبح واضحًا أنَّ البلد لا يمكن أن يقوم على قاعدة قوّة لبنان في ضعفه، واعتماده في مواجهة التّحدّيات على تطمينات الخارج ووعوده له باستعادة حقوقه وحماية سيادته على أرضه، ممّا تؤكّد الوقائع عدم جديّتها، وعدم المصداقيّة لها فيما لبنان، كما نؤكّد دائمًا، يبنى على قاعدة أنَّ قوّته في قوّة أبنائه وعزيمتهم، وهو يملك الكثير ممّا يؤهّله لحماية نفسه ومواجهة التّحديات الّتي تعترضه، لكن إن توحّدت جهوده، ولم يكد بعضه للبعض الآخر، أو يعمل بعضه لإضعاف البعض الآخر.
العدوان على قطر
ونتوقّف عند العدوان الخطير الّذي استهدف دولة قطر، وهو ليس بالأمر الجديد على هذا العدوّ، فقد استهدف قبله أكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ، وبعده كان استهدافه لليمن، والّذي سقط فيه عدد كبير من الشّهداء والجرحى.
لقد أراد الكيان الصّهيونيّ ممّا جرى ويجري، أن يوجّه رسالة دمويّة إلى القاصي والدّاني أن لا أماكن محظورة عليه بعد اليوم، ولا دولة فوق الاستهداف عندما تدعو مصالحه إلى ذلك، حتّى لو كانت مطبِّعة معه ولا تكنّ العداء له، وحتّى لو أحاطت نفسها بحماية القواعد الأميركيّة أو الأوروبيّة أو أيّ قواعد أخرى.
إنّنا في الوقت الّذي أدنَّا وندين العدوان على هذا البلد، كما أدنَّا استهداف البلدان العربيّة والإسلاميّة الأخرى، نعيد دعوة الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى وعي خطورة استمرار العدوّ في استباحته لهذا العالم العربيّ والإسلاميّ، والّذي بات واضحًا أنّها تأتي في سياق صناعة خارطة جديدة، والّتي يراد لهذا الكيان أن يكون له اليد الطّولى فيها، وذلك في سياق ما يطمح إليه من بناء دولة إسرائيل الكبرى، ما يفرض على هذه الدّول الخروج من حال اللامبالاة بعد هذا التغوّل الإسرائيليّ، واتّخاذ مواقف صارمة وجديّة في مواجهة ما يجري، وعدم الاكتفاء ببيانات إدانة واجتماعات لا تساوي قراراتها في ميزان هذا العدوّ الحبر الّذي كتبت فيه، كما يقول هو دائمًا، ونحن على ثقة أنَّ الدّول العربيّة والإسلاميّة قادرة على القيام بإجراءات رادعة لهذا العدوّ ولكلّ من يقف معه، إن هي وحَّدت جهودها وطاقاتها، وخرجت من ضعفها واستضعاف نفسها، ولكن مع الأسف، هي لا تفعل ذلك.
إنَّ من المؤسف أن نشهد بلدانًا غير عربيّة وغير إسلاميّة سارعت لأخذ مواقف تجاه هذا العدوّ بعد الّذي جرى، واتّخذت إجراءات تجاهه على الصّعيد السّياسيّ والاقتصاديّ والإعلاميّ والقضائيّ، واتّجهت إلى محاكمة مسؤوليه أمام المحافل الدّوليَّة، فيما لا نجد ذلك في العالم العربيّ والإسلاميّ، إلّا فيما نذر، ممّا نشهده في اليمن على وجه الخصوص، والّذي يستمرّ بدعمه لفلسطين رغم التّضحيات الجسيمة الّتي يقدّمها.
إنّ على العالم العربيّ والإسلاميّ أن يعي أنَّ سكوته سيجعل هذا العدوّ يتجرّأ أكثر، ودائمًا نتذكّر المثل: أُكلْتُ يوم أُكِل الثّور الأبيض.
مخطّط تفريغ غزّة
ونصل إلى غزّة، حيث يواصل العدوّ تدميره لأراضيها وأبنيتها وبنيتها التّحتيّة، بعد أن ضرب بعرض الحائط كلّ الوساطات الّتي كانت تجري، بل هو سعى لإجهاضها من خلال ما جرى من اعتداء غادر على الوفد الفلسطينيّ المفاوض في الدَّوحة، والّذي جاء في إطار سعيه لإفراغ غزّة من أهلها وتهجيرهم منها، وهو يستكمل مخطّطه هذا في الضّفّة الغربيَّة، في الوقت الّذي يصرّ الشّعب الفلسطينيّ على الاستمرار في مواجهة هذا العدوّ بالإرادة الصَّلبة، وبالإمكانات المحدودة الّتي يمتلكها، والّتي شهدناها في العمليّات الأخيرة.
تأكيد خطّ الوحدة
وأخيرًا، لا بدَّ من الإشادة بالقرارات الّتي صدرت عن المؤتمر العالميّ التّاسع والثّلاثين للوحدة الإسلاميّة، والّذي عقد أخيرًا في طهران، والّذي يدعو إليه كلّ سنة المجمع العالميّ للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، والّتي أكّدت ضرورة استمرار العمل بمسيرة الوحدة الإسلاميّة وتعزيزها، وإزالة كلّ الحواجز الّتي تقف أمامها، والّتي باتت الحاجة ماسّةً إليها أكثر من أيّ وقت مضى، لكونها السّلاح الأمضى في مواجهة الظّروف الصَّعبة الّتي يعانيها العالم الإسلاميّ، وخصوصًا الاستباحة الّتي تجري لدوله من العدوّ الصّهيونيّ ومن يقف معه، والّذي لا يمكن أن يواجه إلّا بها.