قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} صدق الله العظيم.
إنَّ من أهم الصّفات الَّتي يجب على المؤمن أن يسعى لبلوغها واكتسابها، الحكمة. فالمؤمن مدعوّ إلى أن يكون حكيمًا بكلّ ما يصدر عنه من أقوال وأفعال ومواقف وتصرّفات، وهي ليست خيارًا.
معنى الحكمة
والحكمة تعني وضع الشَّيء في موضعه الصَّحيح، فحتى يكون الإنسان حكيمًا، لا بدّ أن تقع الكلمة الّتي تصدر عنه في موقعها الصَّحيح والصَّائب، والتصرّف في موضعه، والموقف في محلّه، فلا يتكلَّم إلَّا بعد أن يتدبَّر الكلمة ويتأكَّد من صدقها وصلاحها وحسنها، وأنّها تترك أثرًا طيّبًا لدى سامعها. لذا، فهو لا ينطق إلَّا خيرًا عندما يقتضي الأمر أن يتكلَّم، وهو يحرص عندما يتصرّف أن يكون عادلًا في تصرفاته مع الآخرين، فلا يتصرّف بناءً على هوى أو انفعال أو ما يسيء به إلى مصالح الآخرين على حساب المصلحة العامَّة، وهو لا يستعجل في اتّخاذ قراراته، بل يتَّخذها بتأنّ، وبعد دراسة ووعي للنَّتائج والتَّداعيات، فإن كان رشدًا يتبنَّاه، وإن كان غيًّا انتهي عنه. لذا تراه يسالم حيث تدعو المصلحة أن يسالم، ويحارب حيث تدعوه أن يحارب، ويرفق في مواضع الرّفق، ويعنف حيث ينبغي العنف وحيث يؤدي إلى نتائج إيجابيَّة.
الحكمةُ في القرآن والأحاديث
والحكمة، أيّها الأحبّة، هي أساس في دعوة الأنبياء والمرسلين لمن أرسلوا إليهمـ وقد عهد الله أن يدعوا إليها عباده، وهو ما أشار به الله عزّ وجلّ إلى رسوله (ص) عندما قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}. ولقد منّ الله بالحكمة على المؤمنين في قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، واعتبرها الله عزّ وجلّ من أهمّ النّعم التي ينعم بها على عباده، عندما قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.
وقد أشارت الأحاديث الشَّريفة إلى مدى أهميتها، ففي الحديث: “كاد الحكيم أن يكون نبيًّا”، وفي الحديث: “من عرف بالحكمة، لحظته العيون بالوقار والهيبة”، وهذا ما أوصى به لقمان الحكيم ابنه، حيث تحدَّث الله عن حكمته، وأفرد له صورة، عندما قال: “يا بنيّ، تعلَّم العلم والحكمة تشرف، فإنَّ الحكمة تدلّ على الدين، وتشرف العبد على الحر، وترفع المسكين على الغنيّ، وتقدّم الصّغير على الكبير”.
ولم تكتفِ الأحاديث الشَّريفة بذلك، بل دعت المؤمنين إلى أن يبحثوا عنها عند من يجدونها عندهم، بأن تكون ضالَّتهم، فقد جاء في الحديث أنَّ: “الحكمة ضالَّة المؤمن”.
الطّريق إلى الحكمة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن معنيّون ببلوغ الحكمة، وأن تحكم الحكمة كلَّ مفاصل حياتنا، وأن لا نتصرَّف أو نتحرَّك إلَّا بوحيها. وقد أوضحت لنا الأحاديث الطَّريق إلى ذلك، وبيّنت لنا كيفيَّة بلوغ هذا الموقع الرَّفيع وهذه الدرجة العالية.
وهذا يدعونا، أوَّلًا، إلى الأخذ بما جاء عن الله عزّ وجلّ وعن رسوله (ص) والأئمّة (ع)، بأن نتمثَّل الله عزّ وجلّ في حكمته في الكون، وأن نقتضي بالحكمة الَّتي انتهجها رسول الله (ص) والأئمة (ع) في تعاملهم مع أصحابهم، ومن كان يختلف معهم وحتَّى من يواجههم، وأن نلتزم بالرّسالة الّتي حملوها ونعيش معانيها ونتدبَّر أبعادها. لذا جاء في الحديث: “تفقَّهوا في دين الله، فإنَّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسّبب إلى المنازل الرَّفيعة والرُّتب الجليلة في الدين والدنيا”.
ثانيًا: أن نتعلّم من أخطاء الآخرين، فلا نكرر أخطاءهم، ولا نقع فيما وقع فيه غيرنا، ففي كلام للقمان الحكيم عندما سئل عمَّا أوصله إلى أن يكون حكيمًا، قال: “تعلَّمت الحكمة من الجهلاء”، وذلك أني كلَّما رأيت أحدًا أساء التصرّف في أمر من الأمور، تركت فعله، حتَّى لا أبدو في نظر الآخرين مثله.
ثالثًا: الزهد في الدنيا، والزهد فيها لا يعني أن لا نأخذ من الدنيا أو ننعم فيها، فليس في ذلك الزهد، بل أن لا يكون حبّها والشَّغف بلذَّاتها وشهواتها هو الحاكم في قراراتنا ومواقفنا.
فقد ورد في الحديث: “من زهد في الدنيا، أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصَّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدّنيا سالمًا إلى دار السَّلام”، وفي الحديث: “أغلب الشَّهوة تكمل لك الحكمة”.
رابعًا: أن نخلص لله، بأن نخلص له العبوديَّة والطَّاعة والموقف، بأن يكون الله هو الهدف في كلّ ما يصدر عنّا، وإذا أخلصنا لأحد فمن خلاله. فالحكمة هي منحة الله ومن عطاءاته، وهو الطريق إليها، فهو كما قال: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، وهو يمنّ بها على عباده المخلصين، فقد ورد في الحديث: “مَن أَحسن عبادة الله في شبابه، أَعطاه الله الحكمة عند كبر سنّه”.
وفي الحديث القدسيّ: “لا أطَّلع على قلب عبد، فأعلم منه حبَّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي، إلَّا تولَّيت تقويمه وسياسته”، وفي الحديث: “ما أخلصَ عبد لله عزّ وجلّ، إلَّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”.
وفي حديث آخر: “ما من عبد يخلص العمل الله تعالى أربعين يومًا، إلَّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”.
خامسًا: الخوف من الله وخشيته، بأن نخشى أن نكون في موقع غضبه وعقابه، وقد ورد في الحديث: “رأس الحكمة مخافة الله”.
ما يخلّ بالحكمة
فيما نحن معنيون أن نبتعد عن كلّ ما يخلّ بها مما ورد في ذلك:
فأوّلها التكبّر وعدم التواضع، عندما نمتلك علمًا أو مالًا أو موقعًا أو سلاحًا، حيث ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (ع): “إنَّ الزرع ينبت في السَّهل ولا ينبت في الصَّفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبَّار”.
وثانيها أن لا يتحكَّم بنا الغضب والانفعال، فقد ورد في الحديث: “الغضب ممحقة لقلب الحكيم”، “ومن لم يملك غضبه، لم يملك عقله”.
وثالثها أن لا نتعجَّل في إصدار كلماتنا ومواقفنا وتصرّفاتنا، بأن نتأنَّى بها، وأن نأخذ بالاعتبار عندما نتصرَّف أيَّ تصرّف، أو نطلق أيَّ كلمة، أو نأخذ أيَّ موقف، الظرف المناسب والمكان المناسب والأسلوب المناسب، فلكلّ شيء ظرفه وأوانه ووقته، فعن رسول الله (ص): “من تأنَّى أصاب أو كاد، ومن عجَّل أخطأ أو كاد”، وفي الحديث: “إنما أهلك الناس العجلة، ولو أن الناس تثبتوا لم يهلك أحد”، وفي الحديث: “مع التثبّت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة”، وفي حديث الإمام الصادق (ع): “من ابتدأ بعمل في غير وقته، كان بلوغه في غير حينه”.
تعزيز الحكمة في الواقع
أيُّها الأحبّة: إننا معنيون بتعزيز الحكمة في واقعنا، بحيث تكون حاضرة في كلامنا ومواقفنا، وفي كلّ حركة، وفي كل عمل نقوم به، هي ليست هنا خيارًا لنا بل واجباً، فنحن أحوج ما نكون إلى الحكماء الّذين لا يطلقون كلماتهم ومواقفهم بناءً على ردود فعل، أو يتحركون من واقع الانفعال والعصبية، بل بناءً على دراسة واقعيَّة وحكيمة، ووعي ودراسة للعواقب والنَّتائج التي قد تنشأ عن أيّ تحرّك، حتَّى لا يقعوا في الأخطاء، ولا يسيئوا إلى مجتمعهم ووطنهم وأمَّتهم، بحيث تكون المصلحة والحقيقة هاجسهم، فلا يستعجلون الوصول إلى النتائج قبل إنضاج الظروف المؤاتية لها، ويخلصون له حقّ الإخلاص، ويسلّمون له حقّ التسليم.
بذلك ننجو في الدنيا ونسلم عندما نقف بين يدي الله، حيث لا سلامة إلَّا بانتهاج الحكمة طريقًا وأسلوبًا ونهجًا.
بسم الله الرّحمن الرَّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصية لقمان الحكيم لابنه، والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى لأهميَّتها وما تدعو إليه، عندما قال له: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
أيّها الأحبّة، إنّنا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا التي يتعيّن علينا أن نعمل بها وندعو إليها، ونربي عليها كلّ من نلتقي بهم، لنكون بذلك أكثر وعيًا ومسؤوليّة وقدرةً على مواجهة التحدّيات.
اعتداءات مستمرّة
والبداية من الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة على لبنان، والتي نشهدها في عمليّات الاغتيال الَّتي تطاول مواطنين لبنانيّين خلال تنقّلاتهم، أو في أثناء تواجدهم في قراهم أو في مواقع عملهم، أو في الغارات التي تستهدف القرى الحدوديّة، ولا سيّما المنازل الجاهزة، لتمنع الأهالي من العودة إليها أو الاستقرار فيها، أو في الطّلعات التجسسيّة الَّتي تجوب الأجواء اللّبنانيّة بشكل ظاهر أو خفيّ، من دون أن تبدو في الأفق أيّ مبادرة من الدّول الرّاعية لوقف إطلاق النار، للضَّغط على هذا العدوّ، وكفّه عن اعتداءاته، وفي ظلّ صمت مطبق للّجنة المشرفة على تنفيذه، والَّتي لا تكلّف نفسها حتَّى إصدار بيانات إدانة لما يجري، ما يجعل العدوّ يتمادى في جرائمه واعتداءاته، بل قد تشجّعه على أن يتوسَّع فيها.
إنّنا أمام ما يجري، نجدّد دعوتنا الدَّولة اللّبنانيّة أن لا تكتفي بإدانة ما يجري أو متابعته، بقدر ما عليها، حرصًا منها على أمن هذا البلد وسيادته وصدقيّتها، أن تقوم بعمل جادّ لدى الدول الراعية لهذا الاتّفاق، وفي المحافل الدوليّة، باستخدام كل الوسائل الآيلة إلى إيقاف هذا النَّزيف المستمرّ، والقيام بكلّ الدّور المطلوب منها على صعيد تنفيذ القرار 1701، مما تشهد له القوّات الدوليّة المتواجدة في لبنان.
إنّنا إذ ندرك مدى شراسة الهجمة وخطورتها الّتي يشنّها الكيان الصهيوني بالقدرات الّتي يمتلكها، والتغطية الّتي تأمَّنت له، والتي لم تعد تقف عند حدود هذا البلد، بل تتعدَّاه إلى بلدان أخرى، لكن هذا لا يعني الاستسلام له، بقدر ما يدعو إلى العمل لمواجهته، باستخدام كل عناصر القوَّة التي يمتلكها هذا البلد، ودائمًا نؤكّد أنَّه ما ضاع حقّ وراءه مطالب.
وفي الوقت نفسه، نجدّد دعوتنا للبنانيين إلى أن يكفّوا عن صراعاتهم، ويجمدوا خلافاتهم التي لا توصل إلى أيّ نتائج سوى المزيد من الشرخ فيما بينهم، وإضعافهم وتشتيت قواهم، وأن تتوحَّد جهودهم لمعالجة الأزمات التي تعصف بهم على صعيد الداخل، وإصلاح ما فسد منها، والتوحّد في مواجهة العدوّ الّذي يتربَّص بهم شرًّا، والّذي لن يعمل لحساب أيّ طرف، بل هو يريد الإطباق على البلد كلّه والتحكّم بقراره، واعتماد الحكمة في التعامل مع كلّ المتغيّرات المتسارعة، والّتي نشهدها على صعيد المنطقة، والّتي لا بدَّ أن تنعكس على هذا البلد وتترك تداعياتها عليه.
اختراق السَّاحة بالعملاء
ونبقى على هذا الصعيد، لنشير إلى الخطر الَّذي يتهدّدنا من هذا العدوّ، والّذي يعمل لاختراق ساحتنا الداخليَّة من خلال تجنيد عملاء له، مستفيدًا في ذلك من نقاط ضعفهم، ما يدعو إلى وعي متزايد لدى شبّاننا وشابّاتنا، بأن لا يقعوا فريسة لإغراءات هذا العدوّ، من خلال وعيهم للأساليب المخادعة الّتي يستخدمها للإيقاع بهم، إضافةً إلى ضرورة الرّقابة المتشدّدة من الدّولة والمجتمع لمنع هذا العدوّ من تحقيق أهدافه، كما ندعو إلى تشديد العقوبات تجاه من يخونون وطنهم وأمّتهم ويبيعون أنفسهم لهذا العدوّ، ويتهدَّدون أمن البلد وقوّته وحياة أبنائه.
ملفّ الانتخابات
ونصل إلى الانتخابات البلديَّة الّتي نتطلَّع إلى أن تستكمل، وأن لا تشوبها الشَّوائب الّتي برزت على الصّعيد التنظيمي والإداريّ، لتكون محطّة من محطَّات النهوض لهذا الوطن، وتكون خيارات النّاخبين فيها نابعةً من مصالح قراهم وبلداتهم ومدنهم… إنّ من الطبيعي أن يحصل تنافس بفعل كلّ التّنوّع الموجود، إن على صعيد العشائر أو العائلات، أو الطّوائف والمذاهب أو المواقع السياسيّة، لكنّنا لا نريده تنافسًا يسهم في الانقسام داخل هذا البلد، ويؤجّج الصّراعات فيه، بقدر ما نريده تنافسًا لاختيار الأفضل والأصلح والأكثر قدرة على خدمة قريته أو بلدته أو مدينته.
حصار غزّة
ونصل إلى غزَّة التي لم تتوقَّف فيها مجازر هذا العدوّ، وحصاره المطبق عليها، رغم المرونة الّتي أبداها ويبديها الجانب الفلسطينيّ، والّتي أدّت إلى إطلاق الرّهينة الأميركي الجنسيّة.
لقد كنا نأمل من الدول العربيّة الّتي زارها الرّئيس الأميركيّ، أن يكون إيقاف نزيف الدَّم في غزَّة والضّفة الغربيّة شرطًا لإجراء أيّ اتفاقات اقتصاديّة وغير اقتصاديّة يريدها الرئيس الأميركيّ، وهو قدم للحصول عليها، ولعلاج أزمات تعانيها الولايات المتحدة الأميركيَّة، وأن لا تمرَّ هذه الاتّفاقات من دون وقف الاستباحة الصهيونيّة لغزَّة والضفَّة الغربيَّة ولبنان وسوريا واليمن، أو وقف الضَّغط للتطبيع معه، حتى لا تتكرَّر مجددًا نكبة 1948 الّتي نعيش ذكراها في الخامس عشر من هذا الشَّهر.
لقد آن الأوان للعالم العربي الَّذي يجتمع غدًا في القمة التي ستنعقد في بغداد، أن يعي مواقع قوّته، فعنده ما يحتاج إليه العالم من موارد وثروات وإمكانات، وأن تكون لحساب قضاياه المصيريَّة، وقوّة لها ولحضوره في هذا العالم، لا أن تذهب هدرًا أو لمصالح خاصَّة.
ذكرى اتّفاق العار
وأخيرًا، نلتقي غدًا بذكرى اتفاق السابع عشر من أيّار، الَّذي يذكّرنا بالموقف العلمائيّ الَّذي انطلق من مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، وفي طليعتهم، سماحة العلّامة المرجع السيّد فضل الله (رض)، هذا الموقف الّذي رفض الاتّفاق الذّليل، وأشعل الشَّرارة التي أدَّت إلى إلغائه وإلغاء مفاعيله، ومنع العدوّ الصّهيوني من تحقيق أهدافه الّتي يريدها من لبنان.
إنَّ هذه الذّكرى تعيد التأكيد للشّعوب بأنّها قادرة على الوقوف في وجه أيّ مؤامرات تستهدفها في أرضها أو ثرواتها، ولو كانت مدعومةً بأساطيل العالم، إذا امتلكت الوعي الصَّحيح، والإيمان العميق، والحكمة، والإرادة الصّلبة، والاستعداد للتَّضحية.