ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله وايثار طاعته والاعتصام بحبله ولزوم عبادته فإنّه من اعتصم بحبل الله فقد هُديٌ إلى صراط مستقيم، وبذلك نكون أكثر وعيًا وقدرة على مواجهة التّحديات.
والبداية من الاعتداءات الإسرائيليّة الّتي لا تتوقّف من خلال الغارات المستمرّة والّتي حصلت أخيرًا وطاولت الجنوب اللّبنانيّ والبقاع الغربيّ واستمرار عمليّات الاغتيال وكان آخرها في خلدة والّتي يريد العدو من خلالها أن يخضع لبنان ويدفعه نحو الاستسلام والقبول بشروطه المذلّة، والّتي تواكب بالشّروط الّتي يمليها المبعوث الأميركيّ على لبنان.
ونحن نؤكّد هنا ما أكّدناه سابقًا بأن أفضل السّبل لمواجهة اعتداءات العدو والضّغوط الّتي تمارس عليه هو وحدة الموقف اللّبنانيّ الدّاخلي، وأن يشعر أنّ من يواجهه ويقف ضدّ أطماعه ليس فئة معيّنة من الشّعب اللّبناني، بل اللّبنانيين جميعًا.
ولذلك فإنّنا نتطلّع إلى وحدة اللّبنانيين وابتعادهم عن الخطاب المتشنّج والانفعالي، وهو ما يستفيد منه العدو ويشكّل خطرًا على الوطن ومن هنا فإنّنا نأمل أن يتفق الجميع على موقف موحّد يكون بمثابة الرّد الحاسم على الورقة الأميركيّة، ويشكّل جزءًا لا يتجزّأ من التزام الجميع بسيادة البلد ووحدته وعدم الخضوع لاملاءات الآخرين، تحت شعار أن لا حول لنا ولا قوة لنا في مواجهة الخارج.
ونحن في هذا اليوم الرّابع من تمّوز نطلّ على مناسبة أليمة وهي الذّكرى الخامسة عشر للوفاء للسّيّد (رض) والّتي تأتي متزامنة مع رحيل الوالدة ممّن كانت شريكة له ورفيقته طوال حياته وعاشت معه آماله وطموحاته ومعاناته، وكانت وفيّة له في كلّ ذلك... وقد شاء الله أن تغادرنا في يوم ارتحاله... لقد غادرنا السّيّد (رض) بعد أن ترك أثرًا طيبًا في حياتنا فقد كان بالنّسبة لنا الأب والموجّه والمربّي والمرجع ومن كان يبعث فينا الأمل والعزيمة والإرادة عندما كانت تواجهنا الصّعوبات وتعصف بنا التّحديات وهو الّذي عزّز في نفوسنا الثّقة بوعد الله بأن المستقبل لن يكون للضّعفاء والمستكبرين والمهزومين وأنّ الله لا يترك عباده ما داموا عند عهده بهم، وهو في كلّ مواقفه وحركته انطلق من خلال وعيه للإسلام الّذي حرص أن يأخذه من ينابيعه الصّافية، لذا رأى فيه دعوة إلى إنسانيَّة الإنسان، لذلك قال: «أن تكون مسلمًا، هو أن تكون إنسانًا يعيش إنسانيّته في إنسانيّة الآخر» وأنّ هذا الدّين لم يأت ليكون مشكلة للعالمين وليعقد حياتهم بل دين يسر ورحمة لهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وهذا هو ما حكم آراءه وفتاويه وأفكاره ومنطلقاته وأهدافه.
لقد دعا السّيّد إلى خطاب العقل، ولكنّه لم يصادر مساحة القلب والعاطفة، لذا كان يقول: أعطوا العقل جرعةً من العاطفة ليرقّ، والعاطفة جرعةً من العقل لتتوازن. وكان يرى أن أفضل مفتاح للعقل هو القلب والكلمة الطيّبة، عملًا بالآية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
كان حريصًا على أن يوصل فكره إلى الجميع لذا خاطب الجميع كلٌّ بلغته.
فتح السيّد الباب واسعًا أمام الحوار البنّاء، لكن ليس حوار الذّات للذّات، إنّما حوار العقل للعقل، شرط أن يصاحب هذا الحوار الحبّ لمن تحاور، فلا حوار مع الحقد، والحوار المنفتح الّذي يخضع للقاعدة القرآنيّة القائمة على الدّعوة والجدال بالّتي هي أحسن.
ولذلك رفض الحوار الشّكليّ أو حوار الدّيكور أو الحوار لتقطيع الوقت واعتبر أنّ الحقيقة هي بنت الحوار... كان حريصًا على الوحدة الإسلاميَّة والوطنيّة واللّقاء بين الدّيانات، واعتبر العمل للوحدة دينًا ندين الله به وأن ضرب هذه الوحدة هو هدف الأعداء الّذين يريدون لهذه الأمَّة أن يحكمها التّباغض والتّناحر والصّراعات لكي تفشل ويذهب ريحها ودعا للتّواصل والتّلاقي الّذي به تزول الهواجس والمخاوف وتذوب الخلافات، وعمل على ذلك وكان شعاره الدّائم "القلب مفتوح والعقل مفتوح والبيت مفتوح".
كان واعيًا لخطورة الكيان الصّهيونيّ وكان يخشى على لبنان منه، وحتّى قبل الاجتياح الصّهيونيّ للبنان لأنّه قرأ في عقيدة هذا الكيان كلّ الأطماع التّوسّعيّة الّتي لا تقف عند حدود وضوابط تردعها، ودعا إلى بناء عناصر القوة والاستعدادات الكفيلة لمواجهة عدوانه وأطماعه، ورفض مقولة قوّة لبنان في ضعفه وأنّ العين لا تقاوم المخرز، وأكّد أنّ العين ومن خلال الايمان والأخذ بالأسباب تستطيع أن تقاوم.
لقد كان سندًا وملهمًا للمقاومة منذ انطلاقتها، لا لعنوانها الطّائفي، بل لإيمانه أنّ قوّتها قوّة للبنان كلّ لبنان ولحسابه، وهو لذلك احتضنها ورعاها، وقدّم عصارة فكره لتعزيزها في وجدان الأمّة والرّهان عليها كسبيل رئيس لتحرير الأرض وحماية الوطن، وتلقّى بصدره الكثير من الطّعنات الّتي شكّكت بها، فكان الدّرع الّذي حماها والصّوت الهادر والحكيم في وجه من أرادوا تشويه صورتها، ممّن لم يعوا دورها ومنطلقاتها وأهدافها وما تسعى إليه.
وكانت القضيّة الفلسطينيّة هاجسه منذ البدايات لكونها قضيّة شعب مظلوم احتلت أرضه وأخرج منها ولذلك قال لمن سأله متى ترتاح قال أرتاح عندما يغادر هذا الكيان أرض هذه المنطقة ويرفع الظّلم عن هذا الشّعب، وها هي الأيّام تؤكّد على ما كان يخشاه ممّا يجري على أرض فلسطين وخارجها.
كان يريد للعالم العربيّ والإسلاميّ أن يتعاون ويتكاتف فيما بينه للارتققاء في سلم النّهوض الحضاريّ ومواجهة التّحديات الّتي تعصف به فهو يملك كلّ القدرات والإمكانات الّتي تؤهله ليكون له الحضور القوي في العالم الّذي لا يقبل من أحد أن يعبث بمقدراته وإمكاناته ويريده أن يجعل منه بقرة حلوب، ومن هنا لطالما دعم وساند كلّ الدّول الّتي عملت في هذا الاطار ومن هنا كان دعمه للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.
وكان هاجسه في هذا البلد الّذي ينعم بتنوّع طوائفه ومذاهبه أن يقدّم أنموذجًا يقتدى في قدرة الأديان على التّلاقي والتّعاون ويقدّم أنموذجًا في بناء دولة الإنسان الّتي دعت إليها الدّيانات السّماويّة دولة تبنى على العدالة والقيم الأخلاقيّة بدلًا من الوقوع في شرك الطّائفية الّتي لم تكن دينًا بل تجمّعًا بشريًّا يحمل عنوان الدّين وغالبًا دون مضمونه.
ويبقى همّ كان يعيش في وجدان السيد (رض) هو همّ الفقراء والمساكين والأيتام والمعوقين والمسنّين... فهو سعى لينتشلهم من هذا الواقع ليعيشوا في هذه الحياة أعزّاء وكرماء وقد عبّر عن ذلك من خلال مؤسّسات الخير الّتي انطلقت وانتشرت في لبنان وخارجه. وسوف تستمرّ بإذنه تعالى.
أيّها الأحبّة إنّ ارتباطنا بالسّيّد لم يرده السّيّد (رض) أن يكون ارتباطًا بشخصه بل بخطّ وفكر ونهج وأهداف أرادت الارتقاء بالإنسان والوطن والأمّة في ميادين النّهوض الحضاري والإنساني، ليعود للدّين اشراقته وللأخلاق موقعها وللعدالة حضورها على صعيد العالم ما يعيد لهذا العالم الأمل بفتح صفحة إنسانيّة مشرقة تطوي ما يعيشه اليوم من مظالم وفساد وحروب باتت تهدّد الحياة الإنسانيّة الكريمة في هذا العالم.
ونحن اليوم وفي ظلّ كلّ الواقع الصّعب الّذي نعيشه والّذي يتهدّدنا على صعيد هذا البلد وفي المنطقة أحوج ما نكون إلى أن نغرف من معين فكره وسيرته ونهجه وأن نكون الأوفياء لا لشخصه، وهو الذي كان يرفض عبودية الأشخاص بل لهذا الخطّ الإسلاميّ الحضاريّ الّذي قضى كل حياته لتعزيزه وأن نواصل حفظنا للأمانة الّتي تركها والّتي تعهدتها الأمّة الّتي كما كانت وفيّة له وشاكرة لما قدّمه وعمله من أجلها، وستبقى على ذلك...
رحمك الله وأبقى فكرك ونهجك حيًّا في قلوبنا وعقولنا ونستلهمه في كلّ حركتنا.