ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأصي نفسي بما أوصى به رسول الله (ص) أصحابه عندما وقف على منبره قائلًا: "وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا أُعْطِيَ مُؤْمِنٌ قَطُّ خَيْرَ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ إِلَّا بِحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ خُلُقِهِ وَالْكَفِّ عَنِ اغْتِيَابِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مُؤْمِنًا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا بِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ وَتَقْصِيرِهِ مِنْ رَجَائِهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ وَاغْتِيَابِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يَحْسُنُ ظَنُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ إِلَّا كَانَ اللَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الْخَيْرَاتُ يَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ الْمُؤْمِنُ قَدْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخْلِفَ ظَنَّهُ وَ رَجَاءَهُ، فَأَحْسِنُوا بِاللَّهِ الظَّنَّ وَ ارْغَبُوا إِلَيْهِ".
فلنستوص بوصيّة رسول الله (ص) ولنعمل بها لنكون قادرين على أن ننال ما عند الله وما عند الله خير لنكون أكثر وعيًا وقدرةً على مواجهة التّحديات.
والبداية من الاعتداءات الإسرائيليّة الّتي لا يبدو أنّها ستتوقّف بل نخشى أنّها ستزداد والّتي نشهدها في الغارات الّتي طاولت العديد من المناطق وكان آخرها ما جرى بالأمس في البقاع والجنوب وأدّت إلى ترويع الأطفال وهم على مقاعد الدّراسة واستشهاد العديد من المدنيّين وفي مواصلة مسلسل الاغتيالات للمواطنين وفي الممارسات العدوانيّة في قرى الشّريط الحدوديّ لمنع الأهالي من العودة الآمنة إليها.
وهنا لا بدّ من أن نحيي أهالي الشّريط الحدوديّ ممّن أصرّوا على الرّجوع لقراهم والبقاء فيها رغم كلّ المخاطر الّتي يتعرّضون لها حفظًا لها وتعبيرًا عن حبّهم لأرضهم رغم عدم توافر المتطلّبات الكافية لتأمين حياة كريمة لهم وهنا ندعو الدّولة إلى تحمّل مسؤوليّاتها بمدّ يد العون لهؤلاء لتثبيتهم في قراهم وحماية استقرارهم، ونقدّر كلّ الجهود الّتي تبذل من قبل مؤسّسات وجمعيّات تشعر بالمسؤوليّة تجاههم رغم كلّ الحصار والتّضييق.
في هذا الوقت، تتصاعد وتيرة التّهديدات للبنان بقرب شنّ حرب عليه، والّتي جرى التّلويح بها من خلال العدد غير المسبوق للمسيّرات التّجسّسيّة والّتي طاولت الأراضي اللّبنانيّة كافة من الجنوب إلى الشّمال ومن الشّرق إلى الغرب وعلى علوّ منخفض والّتي لم توفّر في طلعاتها حتّى المقرّات الرّسمية للدّولة اللّبنانيّة، ومن خلال المناورات الّتي جرت على مقربة من الحدود اللّبنانيّة وقد ترافق ذلك مع تهديدات صادرة عن جنرالات العدوّ وأركان حربه والّتي واكبها ما صدر عن المبعوث الأميركيّ بإعطاء الحريّة للكيان الصّهيونيّ بتصعيد الحرب على لبنان وأّنّ لا مساعدات ماليّة أو اقتصاديّة أو إعادة إعمار أو عودة الأسرى القابعين في سجون الاحتلال بدون أن يقوم لبنان بما عليه والّذي هو لحساب الكيان الصّهيونيّ.
لقد أصبح واضحًا أنّ ما يراد من كلّ هذه التّهاويل دفع لبنان للتّسليم لشروط العدوّ وإملاءاته والّتي لا تقف عند حدود، ما يفرض على اللّبنانيين أن يرتقوا إلى مستوى تحدّيات هذه المرحلة ومخاطرها والّتي يراد لها أن تمسّ أمنهم واقتصادهم وسيادتهم على أرضهم وقراهم ونحن على ثقة بأنّ اللّبنانيّين قادرون بتماسكهم ووحدتهم واستنفار عناصر قوّتهم لا المسّ بها أن يقفوا في وجه ما يخطّط لهم، ومن هنا ندعوهم إلى أن يسارعوا إلى حلّ خلافاتهم الّتي مع الأسف باتت خبزهم اليوميّ لمنع العدوّ من الاستفادة من أيّة تناقضات قد تحصل على صعيد الدّولة أو على الصّعيد الشّعبي أو من استفراد فريق من اللّبنانيّين باعتبار أنّ المشكلة معه وليس مع أيّ فريق آخر... إنّنا نريد للّبنانيّين أن ينظروا بعين الوعي والمسؤوليّة إلى ما يجري من حولهم وأن لا يهونوا من تداعياته على وطنهم، وأن لا يغيب عنهم أنّ هذا الكيان هو عدوّ لكلّ المكوّنات والفئات اللّبنانيّة الّتي تعيش في وجدانها انتماءً راسخًا لهذا الوطن.
وندعو في هذا الوقت الدّولة اللّبنانيّة المعنية بمواطنيها إلى أن لا تكون غائبة عمّا يجري وأن تكون حاضرة بكلّ مكوّناتها بأن لا يقف دورها عند إصدار بيانات إدانة بما يقوم به العدوّ من جرائم واعتداءات، وترى أنّها بذلك قد أدّت دورها وقسطها إلى العلى بل أن توحّد جهودها لمواجهة ما قد يحصل على الصّعيد الأمنيّ والاقتصاديّ والماليّ... بأن يكون لديها خطّة طوارئ على كلّ هذه الصّعد. وفي الوقت نفسه عليها أن تستنفر جهودها على المستوى السّياسيّ والدّبلوماسيّ وكلّ علاقاتها للعمل على وقاية هذا البلد من أيّ عدوان.
إنّنا لا نريد وسط كلّ ذلك أن نهوّن من حجم الضّغوط الّتي باتت تمارس على الدّولة اللّبنانيّة وعلى اللّبنانيّين ومدى التّغطية الّتي يملكها هذا العدوّ ولكن هذا لا يدعو إلى الرّضوخ لاملاءاته والتّسليم بما يريده، فوطننا ليس بالضّعف الّذي يصوّر به أو بات يعتقده البعض، وأرضه الّتي ارتوت بدماء أبنائه تشهد على ذلك كما يشهد تاريخه القديم والحديث.
ونعود إلى غزّة الّتي تنتظر المرحلة القادمة لتطبيق الاتّفاق ونحن نتطلّع إلى أن تتحقّق من خلاله طموحات الشّعب الفلسطينيّ بامتلاك قراره على أرضه وحقّه في تقرير مصيره... في الوقت الّذي نحذّر من استمرار سعي العدوّ للتّنصّل من أيّ التزام تجاه هذا الشّعب، كما عمل على الالتفاف على المرحلة الأولى بعد استعادة أسراه، وقد رأينا غاراته الّتي حصدت مزيدًا من الضّحايا، سيعمل لتعطيل أيّ مفاعيل لهذه المرحلة ليستكمل مشروعه الّذي بدأه بإنهاء القضيّة الفلسطينيّة من جذورها بتدمير ما تبقّى من قطاع غزّة وتهجير الشّعب الفلسطينيّ وهو الّذي يعمل ليتابعه في الضّفّة الغربيّة، وشرّعه بالقرار التّمهيدي للكنيست بإلحاق الضّفّة الغربيّة بكيانه ما يدعو الدّول العربيّة والإسلاميّة وأحرار العالم إلى استمرار وقوفهم مع الشّعب الفلسطينيّ وإسنادهم له حتّى ينال حقوقه المشروعة على جميع أراضيه.