14/06/2025

يوم الغدير: كمالُ الدّينِ وإتمامُ النّعمةِ بولايةِ عليّ (ع)

يوم الغدير: كمالُ الدّينِ وإتمامُ النّعمةِ بولايةِ عليّ (ع)

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبتيه :
 
 
الخطبة الاولى :
 
 
 
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. صدق الله العظيم.

في الثّامن عشر من شهر ذي الحجَّة الحرام، نزل جبريل على رسول الله (ص) في مكان يدعى غدير خمّ، وهو على مقربة من الجحفة، وكان في طريق عودته وجموع المسلمين من الحجّ الأخير له، والّذي سمّي بحجّة الوداع، ليبلِّغهم بأمر في غاية الخطورة قبل أن تتفرّق جموعهم ويعود كلٌّ إلى بلده: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. سارع رسول الله (ص) بالطّلب من الركب الّذي كان يصاحبه أن يجتمعوا إليه، على أن لا يتخلّف منهم أحد، رغم الحرّ الشَّديد في ظهيرة ذلك اليوم…

بلاغٌ بحجم الرّسالة

وبعد أن أُعدّ لرسول الله (ص) المكان الّذي سيقف عليه ويشرف من خلاله على جموع المسلمين، بدأ كلامه قائلًا: “أيُّها النَّاس، إِنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون. أيُّها النّاس، إني لكم فرط، وإنّكم واردون عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني في الثّقلين”. قيل: وما الثّقلان يا رسول الله؟ قال: “الأكبر كتاب الله عزَّ وجلَّ، والآخر الأصغر عترتي أهل بيتي، وإنَّ اللَّطيف الخبير نبّأني أنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، فلا تقصّروا عنهما فتهلكوا”. بعدها، دعا إليه عليًّا، فأخذ بيده ورفعها، ثمَّ قال: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟”، قالوا: بلى، قال: “ألست أولى بكلِّ مؤمن من نفسه؟”، قالوا: بلى، قال: “فمنْ كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار. ألا فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب”.

وعندها، نزلت الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

الأقدر على القيادة

لقد أشارت هذه الآية إلى أهميَّة هذا الحدث، والّذي حصل قبل أشهر قليلة من انتقال رسول الله (ص) إلى رحاب ربّه، فهو ملأ فراغًا كان الكافرون والمنافقون ينتظرون أن لا يحصل، حتّى يستجمعوا قواهم وينقضّوا على كلّ الانجازات الّتي قام بها رسول الله (ص) والمسلمون معه، والّذي عبّر عنه الله عزّ وجلّ بقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ}. ولكونه الخيار الأقدر على قيادة السَّفينة بعد رسول الله (ص)، لما يمتلكه من الخصائص الذّاتية والمؤهّلات الرّوحيّة والعلميّة والشّجاعة الّتي تؤهّله للقيام بحمل هذه المسؤوليَّة، فعليّ (ع) هو من تربّى في بيت رسول الله (ص) منذ نعومة أظفاره وعلى عينه، ونهل من معين علمه، وفي ذلك قال رسول الله (ص): “أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد أن يدخل المدينة، فلا يدخلها إلّا من بابها”.

وكان (ع) في كلّ حياته سندًا وعضدًا لرسول الله (ص)، عندما أبدى استعدادًا لتحمّل المسؤوليَّة معه في بداية الدّعوة الاسلاميّة، حين نزلت الآية على رسول الله (ص) لتقول له {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، فوقف حينها رسول الله (ص) ليقول: “أيّكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي؟”، ووقف يومها عليّ (ع) ليقول: “أنا يا رسول الله”، وهو من بات على فراش الرسول (ص) ليلة هجرته من مكَّة إلى المدينة، رغم علمه بأنَّ هناك أربعين فارسًا من قريش ينتظرون الفجر حتّى يجهزوا عليه. يومها، اكتفى عليّ (ع) بأن يقول لرسول الله (ص): “أوتسلم يا رسول الله؟ قال: بلى، فقال: اذهب راشدًا مهديًّا، والله لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ”، وفي ذلك نزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}…

وهو من تصدّر كلّ الحروب الّتي خاضها رسول الله (ص)، فكان فارسها وبطلها وحامل الرّايات فيها، ومن أعطاه الرسول (ص) الوسام، عندما برز في معركة الخندق لعمرو بن ودّ العامري، قائلًا: “برز الإيمان كلِّه إلى الشّرك كلّه”، ثمّ قوله: “إنَّ ضربة عليّ يوم الخندق تعادل أعمال الثقلين”. وبعد ذلك في معركة خيبر، حين قال (ص) بعدما عجز غيره عن فتح باب الحصن: “لأُعطينَّ الرَّاية غدًا رجلًا يُحبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه، كرّارًا غير فرّار”، وأعطاها يومها لعليّ (ع)، وهو من قال عنه رسول الله (ص)، يوم أراد الخروج إلى غزوة تبوك، واستخلف يومها عليًّا (ع) للبقاء في المدينة ليدير شؤونها، ولحمايتها ممن كانوا يريدون استغلال السَّفر الطّويل لرسول الله (ص) إلى تبوك حتّى ينقضوا عليها: “أَنْتَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى، إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي”.

مصلحة الإسلام أوّلاً

ولكن رغم كلِّ تلك المواقف والتّوجيهات، أسندت الخلافة إلى غير عليّ. لكنّ عليًّا، الأمين على الإسلام والمسلمين، والواعي لدقّة الظّروف آنذاك، قال كلمته الّتي يجب أن تكون بوصلة لنا في كلّ خياراتنا ومواقفنا: “لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّة”، فقد سالم عليٌّ (ع)، ولم يعلن حربًا على من تسلَّم الخلافة آنذاك، ومنع فتنة كان يراد لها أن تحدث، وأكثر من ذلك، كان يسدّد وينصح ويشير على كلّ من تولَّوا الخلافة آنذاك، حتّى قال الخليفة الثَّاني عمر: “لولا عليّ، لهلك عمر”.

وعندما تولّى الخلافة، أرسى نموذجًا عن الحاكم العادل، فلم يجامل أحدًا، وواجه الّذين وقفوا في وجهه لأنّه لم يساومهم على الحقّ والعدل، والّذي عبّر عنه عندما قال: “ما ترك الحقّ لي من صاحب”.

ولذلك، أيُّها الأحبَّة، فإنَّنا عندما نحيي يوم عيد الغدير، لا لاستثارة الغرائز وشدّ العصب المذهبيّ وتعميق الخلاف بين المسلمين، بل نريده أن يكون مناسبة للتّشديد على منهج عليّ (ع) في حفظ الاسلام وحماية الوحدة الاسلاميّة، وتأكيدها رغم الاختلاف العقدي والتشريعي.

التّمسّك بخطّ الولاية

هذا في الدّائرة الإسلاميّة العامَّة، أمّا بالنسبة إلينا، فإنَّ إحياء هذه المناسبة يكون بالتّمسك بولاية أهل البيت (ع)، والَّذي لا نريده أن يقف عند حدود الانتماء والعاطفة، بل بأن نتمثَّلهم بسلوكهم وعبادتهم وحلمهم ومواقفهم، بأن نسالم حيث سالموا، ونحارب حيث حاربوا، ونكون كما كانوا سدًّا منيعًا في مواجهة الظّلم والفساد والانحراف والغلوّ، وعلامة فارقة في أيّ مجتمع نتواجد فيه، كما في حديث الإمام الباقر (ع) حين قال: “فوالله ما شيعتنا إلّا من اتَّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون، يا جابر، إلَّا بالتَّواضع والتَّخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصَّوم والصَّلاة والبرّ بالوالدين والتّعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن النّاس إلَّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء”، ثم قال: “أفيكفي الرَّجل أن يقول أحبّ عليًّا وأتولَّاه؟!”.

أيّها الأحبّة، إنَّ التزامنا بذلك هو الّذي يجعلنا نستحقّ أن نكون من الملتزمين برسول الله (ص)، ومن أتباع عليّ (ع)، ومن شيعة أهل البيت (ع)، وأن نقول: الحمد لله الّذي أكرمنا بهذا اليوم، وجعلنا من الموفين بعهده إلينا، وميثاقه الّذي واثقنا به من ولاية أمره، والقوّامين بقسطه…

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثَّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة أمير المؤمنين (ع) لشيعته عندما قال لهم: “فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّاد، وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأصَابُوا غِرَّتَهَا، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثًا، وَأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثًا، لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ، وَلاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ، فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لاَ يَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلاَ يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلاَ يَرْكُدُ بَلاَؤُهَا”.

أيّها الأحبَّة، هذه وصيّة أمير المؤمنين (ع) إلينا، فلنتزوّد منها لنعي حقيقة الدّنيا، حتّى لا ننخدع بزخارفها وأمانيها وخدعها، وأن نعي دورنا فيها، لنكون بذلك أكثر وعيًا ومسؤوليَّةً وقدرةً على مواجهة التّحدّيات.

العدوان على إيران

والبداية من العدوان الصّهيوني الخطير على الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران، الَّذي يأتي رغم المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركيَّة حول برنامجها النووي، والتي أكّدت من خلالها سلميَّة هذا البرنامج والاستقرار في المنطقة.

لقد أصبح من الواضح أنَّ العدوّ أراد من هذا العدوان الَّذي يستهدف قيادات سياسية وعسكرية وأمنية وعلمية، النيل من قدرات هذا البلد وتوجّهاته، الّذي شكَّل ومنذ انتصار ثورته، تحديًا لهذا العدوّ، عندما أغلق سفارته وفتح الأبواب لسفارة فلسطين، واعتبر آخر يوم جمعة من شهر رمضان يومًا عالميًّا للقدس، لكي تبقى حاضرة في وجدان الأمّة ولا تنسى. وكان صادقًا في وقوفه مع القضيّة الفلسطينيّة وحمل لوائها، والتي اعتبرها من أولويَّاته، وساند كلَّ العاملين لأجلها بكلّ الإمكانات والقدرات، متجاوزًا في ذلك الاعتبارات السياسيّة والمذهبيّة والمخاطر الّتي قد تحدق به، وهو تحمّل لأجلها كلَّ هذا التّضييق والحصار الذي عانته ولا تزال.

إنّنا أمام هذا العدوان الخطير بأبعاده ونتائجه وتداعياته على صعيد المنطقة والعالم، ندين هذا العدوان على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران الّتي طالما وقفت مع هذا البلد، وقدَّمت الكثير لاستعادة أرضه وحريّته وسيادته في مواجهة العدوّ الصهيوني، ونحن على ثقة بأنَّ إيران بشعبها وقيادتها الَّتي تجاوزت تحدّيات قاسية في السَّابق، قادرة على تجاوز آثار هذا العدوان وأهدافه في كسر إرادة الشَّعب الإيراني وسعيه لتطوير قدراته.

تواصلُ العدوانِ على لبنان

في هذا الوقت، يستمرّ العدوان الإسرائيليّ على لبنان، الَّذي لا يبدو أنَّه سيتوقَّف، وبات الهاجس الدَّائم للّبنانيّين بفعل الطَّائرات المسيَّرة الَّتي تستبيح الأجواء اللّبنانيَّة، والاستهداف اليومي للمواطنين وهم في قراهم أو أثناء تنقّلهم، والغارات الّتي كان آخرها ما حصل في الجنوب اللبناني بعد الّذي جرى في الضّاحية، رغم الالتزام التامّ للدَّولة اللّبنانيَّة بموجبات قرار وقف إطلاق النَّار والقرار1701…

لقد بات واضحًا أنَّ هذا العدوّ يهدف إلى الضّغط على الدّولة اللّبنانيّة، وإرهاب اللّبنانيّين، لدفعهم لتقديم تنازلات يريدها، والّتي تمسّ بسيادة لبنان وأمنه واستقراره، وصولًا إلى التّطبيع معه، ولتثبيت سيطرته على هذا البلد.

إنّنا أمام ما يجري، نجدّد دعوتنا الدّولة اللّبنانيّة إلى أن يكون العمل لإخراج هذا العدوّ من  المواقع الّتي احتلَّها، والَّذي يسعى لجعل هذا الاحتلال أمرًا واقعًا، واستعادة الأسرى اللبنانيين، ومنع استباحة السّيادة اللبنانيّة، على رأس أولوياتها، واتخاذ كل السّبل الّتي تؤدّي إلى إيقاف نزيف الدم والدمار والاستباحة لهذا البلد، وعدم المسّ بسيادته، والاستفادة من الوسائل المتاحة لديها، وجعل ذلك هاجساً لها على الصعيد السياسي والدبلوماسي، والاستفادة من مواقع القوَّة لديها، لتعزيز ثقة اللّبنانيّين بدولتهم، ولتثبت أنّها قادرة على تأمين الحماية لهم من هذا العدوّ.

في الوقت الّذي نجدّد دعوتنا اللبنانيين إلى تعزيز وحدتهم في مواجهة ما يجري، وأية تداعيات قد تنتج من العدوان الصهيوني، والّتي لن تكون لحساب طائفة أو مذهب أو موقع سياسي أو تعزيز قوَّته، بل ستكون على حساب الجميع، ولحساب هذا الكيان.

 
ألقيت بتاريخ 13-6-2025
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير