ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبتيه :
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. صدق الله العظيم.
دعوةٌ إلى نصارى نجران
نستعيد في هذا اليوم، وفي الرَّابع والعشرين من شهر ذي الحجَّة من السنة العاشرة للهجرة، حدثًا مهمًّا في التَّاريخ الإسلاميّ، وهو اليوم الَّذي باهل فيه رسول الله (ص) نصارى نجران. ونجران كانت تمثِّل آنذاك مركز الدّيانة المسيحيَّة في الجزيرة العربيَّة.
وقد حصل ذلك بعدما أرسل رسول الله (ص) كتابًا إلى أسقف نجران، رأس الكنيسة فيها، يدعوه فيها إلى اللّقاء به في المدينة المنوَّرة، كتأكيد من الرّسول (ص) على عمق اللّقاء بين الدّيانات السماويَّة، وضرورة أن تحكمهم لغة الحوار والتَّواصل، وقال له: “بسم إله إبراهيم وإسحاق ويَعقوب، من مُحمَّد رسول اللّه، إلى أسقُف نَجران وأهل نَجران”، ثمَّ تلا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ…}. “أمَّا بعد، فإنِّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعُوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد”…
يومها، استجاب أسقف نجران لدعوة رسول الله (ص)، فأرسل وفدًا مؤلَّفًا من ستّين شخصًا من كبار رجالات الكنيسة، فاستقبلهم (ص) في مسجده في المدينة المنوَّرة، وهو ما يعزِّز الرأي الفقهيّ الَّذي يقول أن لا مانع من دخول أهل الكتاب إلى المساجد.
وعند الاجتماع مع الوفد، بدأ رسول الله (ص) حديثه بالإشارة إلى أنَّ ما جاء به، يأتي استكمالًا لما جاءت به الرّسالات السماويَّة، فهو لم يأت ليلغيها… نعم، هو صحَّح بعض ما ورد فيها، وهو ما دعاه إليه الله سبحانه وتعالى أن يعلنه ممّا ورد في كتابه العزيز: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
ثمَّ أوضح لهم إيمانه، بأنَّ الأنبياء الَّذين أرسلهم الله عزّ وجلّ إلى النَّاس هم بشر، لهم كلّ صفات البشريَّة، وما يميّزهم أنهم أنبياء يحملون رسالات ربّهم إلى النَّاس، وفي ذلك الكرامة لهم، وهذا ما أكّده هو نفسه عندما قال: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ”، وأنّ هذا ما ينطبق على السيِّد المسيح (ع)، وهو ما أشار إليه بنفسه يوم تكلَّم في المهد، عندما قال فيها: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.
هنا، تدخّل رئيس وفد نصارى نجران قائلًا: لكنَّنا نؤمن أنَّه ابن الله، وإذا لم يكن ابن الله، فهو ابن مَنْ؟ فتلا النَّبيّ (ص) قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}… وقد تجلَّت قدرة الله في ولادته، عندما أوجده من أمّ دون أب، ومثله في ذلك مثل آدم (ع): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فلو أنَّ ولادته من دون أب تستوجب أن يكون ابنًا لله، فآدم أولى بذلك، لأنّه خلق من دون أب وأمّ.
عندها قال رئيس الوفد: إذا كنت تقول عن السيّد المسيح إنّه عبدٌ لله، وإنَّه بشر كبقيَّة البشر، فكيف أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وكان ينبئ النَّاس بما يأكلون ويدَّخرون، ممّا لا يستطيع أن يفعله إلَّا مَنْ تجلَّت فيه صفات الألوهيَّة؟ فقال رسول الله (ص) إنَّ ما جرى من السيّد المسيح هو معاجز، شأنه في ذلك شأن الأنبياء، يظهرها الله على أيديهم، حتَّى يثق النَّاس الّذين أرسلوا إليهم بأنَّهم مبعوثون من عند الله، فهي ليست تعبيرًا عن قدرات شخصيَّة لهم. وقد حرص الله سبحانه وتعالى في حديثه عن معجزات السيّد المسيح (ع)، أن يذكر أنّها كانت بإذنه، حتَّى لا يعتقدنَّ أحد أنَّها قدراته، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وطال النّقاش، واستمرَّ الحوار، ووفد نصارى نجران يسأل عمَّا يجيش في صدره، ورَسول الله (ص) يقدِّم إليهم البراهين الدالَّة والشَّواهد الثّابتة، حتَّى بان أخيرًا أن لا أحد في الوفد يريد أن يقرّ بالحقيقة الَّتي دعا إليها رسول الله (ص).
الاحتكام إلى المباهلة
بعدما رأى رسول الله (ص) أن لا فائدة من استمرار النّقاش بعد بقاء كلّ على رأيه، دعاهم إلى ما دعاه الله إليه من الاحتكام إلى المباهلة. والمباهلة تعني أن يجتمع الفريقان المختلفان، فيضرعا إلى الله عزَّ وجلَّ، ويدعواه إلى أن يعاقب من يرى الحقيقة عند الآخر ويقتنع بها، ورغم ذلك يخالفها، وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
فوجئ نصارى نجران بطلب رسول الله (ص)، إذ لم يكن في حسابهم أن يخضعوا لهذا الامتحان، ولكن ما كان من خيارٍ لهم إلَّا أن يوافقوا، لذا قالوا: أنصَفْتَ يا أبا القاسم، فإنَّ المباهلة آية معجَّلة بيننا وبينك.
وانفضَّ الاجتماع، وأخذ وفد نجران يتفكَّرون فيما يصنعون، فقال رئيس الوفد: قد جاءكم الرّجل بالفصل من أمره وأمركم، فانظروا بمن يباهلكم، فإن باهلكم بالكثرة وذوي الشدَّة، وهذا صنع الملوك، باهلناه، لأنَّه بذلك يريد الضّغط علينا بهذا العدد حتَّى يؤثِّر في موقفنا، وإن أتانا بنفرٍ قليلٍ من صحابته، أو من أهل بيته خاصَّة، كما هي سجيّةُ الأنبياء، فلا نُباهله، فإنَّه لا يقدّم أهل بيته وكبار صحابته إلَّا وهو صادق فيما يريد، وهذه لكم أمارة.
المباهلة بأهل اليت
وفي الصَّباح، وبينما كانت الجموع تصطفّ للمباهلة، وإذا برسول الله (ص) قد قدم وهو يحتضن الحسين (ع)، وآخذًا بيد الحسن (ع)، وخلفه عليّ بن أبي طالب (ع) وفاطمة (ع)، وهؤلاء كانوا يمثّلونه فيما أشارت إليه آية المباهلة، فالحفيدان السبطان الحسن والحسين (ع) أشارت إليهما الآية بـ (أبناءنا)، وفاطمة (ع) أشارت إليها الآية بـ (نساءنا)، وعليّ (ع) بـ (أنفسنا).
تقدَّم النَّبيُّ (ص) إلى حيث وفد نصارى نجران، وهو يقول لمن معه: “إذا دعوْتُ فأمِّنُوا”، ثم يرفع يَدَيْه نحو السَّماء، ويدعو الله سبحانه قائلًا: “اللَّهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي”.
ولما رأى نصارى نجران أنَّ هؤلاء الأربعة وحدهم ممن سيباهلُ بهم الرَّسول (ص)، أشار إليهم رئيسهم أن لا يباهلوهم كما جرى الاتّفاق بينهم، واتَّفقوا مع رسول الله (ص) على أن يبقوا على ما هم عليه، وعلى تنظيم العلاقة بينهم وبين الدَّولة الإسلاميَّة بقيادة رسول الله (ص) بأن يحترموا نظامها وقوانينها ويقفوا معها في سلمها وحربها، على أن يضمن لهم حقوق المواطنة وحريَّة المعتقد والعبادة، وأن لا يتدخَّل في تنظيم شؤونهم المدنيَّة والكنسيَّة، كما يتعامل الإسلام مع كلّ الديانات السماويَّة.
أسلوبُ الجدالِ
أيُّها الأحبَّة: لقد جاءت هذه الحادثة لتثبّت مسألتين؛ أوّلًا، أنَّ العلاقة الَّتي أرادها الإسلام أن تحكم المسلمين بالمسيحيّين، هي علاقة بناها الإسلام على التّواصل والعمل سويًّا على القواسم الإيمانيَّة المشتركة، وعلى الجدال بالَّتي هي أحسن، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ولتشير، ثانيًا، إلى أنَّ المباهلة – بمقاصدها – يمكن اعتمادها كأسلوب في العلاقة بين المختلفين، في كلّ مرّة لا يصل الحوار بينهم إلى نتيجة، ويبقى كلُّ على موقفه، بأن يوكلوا الأمر إلى الله، أن يتولَّى هو الأمر، بأن يعاقب الجاحد على جحوده، والمنكر للحقيقة على إنكاره. وهو أسلوب إن حصل، يساهم في التَّخفيف من التوتّر، ويزيل التوتّر الّذي يحصل عند أيّ خلاف…
موقعيّة أهل البيت (ع)
وأخيرًا، أشارت هذه الحادثة إلى موقع أهل البيت (ع)، فقد بيَّنت أنَّ الحسن والحسين (ع) هما ابنا رسول الله، في مقابل من كان يقول إنَّ أبناء البنت ليسوا أبناءه، وأنَّ الزهراء (ع) في شخصها هي سيِّدة نساء العالمين، وأنَّ عليًّا (ع) هو نفس رسول الله، وأنَّه المعبِّر عنه (ص)، من خلال قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}، ولتنزل بعد ذلك الآية الّتي أظهرت موقع أهل البيت (ع): {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
جعلنا الله من المهتدين بنهج رسول الله، ومن السَّائرين على هدى خطِّ أهل البيت الأطهار الأصفياء، والمهتدين بهديهم الّذي هو السَّبيل للوقاية من الانحراف والضَّلال.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالآيات الَّتي أشارت الأحاديث إلى أنَّها نزلت في الخامس والعشرين من ذي الحجَّة، وهي قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}. صدق الله العظيم.
حيث ورد في سبب نزولها، أنَّ الحسن والحسين (ع) مرضا، فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه، فقالوا لأمير المؤمنين (ع): لو نذرت على ولديك، فنذر عليّ وفاطمة (ع) وفضَّة الجارية لهما، إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيَّام، فشفيا، فكان عليهم أن يفوا بالنَّذر، فصاموا ثلاثة أيّام وفاءً للنَّذر، وباتوا في الثّلاثة جياعًا لإطعامهم إفطارهم لفقير جاء إليهم في اليوم الأوَّل وقت إفطارهم، ومسكين في اليوم الثَّاني، وأسير في اليوم الثَّالث، فنزلت هذه الآيات على رسول الله (ص) لتشير إلى ما منحهم الله من نعم من وراء إيثارهم.
إنَّنا أحوج ما نكون إلى أن نستلهم هذه القيمة الّتي قدَّمتها الآيات عن أهل البيت (ع)؛ قيمة أن نكون عونًا لليتيم والفقير والمسكين وكلّ من يحتاج إلينا، وأن نجاهد لبلوغها، بأن نؤثر مثل هؤلاء الضّعفاء على أنفسنا، وبذلك نعبّر عن حبّنا وولائنا لأهل البيت (ع)، ونحظى بما حظوا به، ونبني بذلك مجتمعًا أكثر قوَّةً ومنعةً وتماسكًا وقدرةً على مواجهة التّحديات.
العدوانُ على إيران
والبداية من العدوان الإسرائيلي المستمرّ على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والّذي أصبح من الواضح أنّه لا يقف عند الهدف الَّذي أعلنه الكيان لهذه الحرب، وهو منع الجمهوريّة الإسلاميّة من امتلاك القدرة النوويّة العسكريّة، بل يراد منه الثّأر من إيران لوقوفها مع الشّعب الفلسطيني ودعم قضيَّته واعتبار ذلك من أولويَّاتها، والمسّ بقدراتها العسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة والعلميّة، وبقيادتها السّياسيّة والدّينيّة، وبتماسك شعبها، وصولًا إلى تهيئة الظروف لتقويض النّظام…
يأتي كلّ هذا التَّصعيد العدوانيّ رغم استعداد إيران الدَّائم للتّفاوض حول برنامجها النّووي للتّأكيد على سلميَّته، ومن المفارقة أنَّ من يطالب بذلك هو الكيان الصّهيوني الّذي يملك القدرة النَّوويّة والعسكريّة، ولديه أكثر من مئتي رأس نووي.
وقد بدأ هذا العدوان يأخذ أبعادًا جديدة وخطيرة، وبات يخشى من تداعياته على المنطقة والعالم، بعد تلويح الرّئيس الأميركي بالمشاركة المباشرة والفعليّة مع الكيان الصّهيوني في هذه الحرب، والّذي وصل إلى حدّ التّهديد باغتيال مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة، والّذي تجاوز به كلّ الحدود، من دون الأخذ بالاعتبار الموقع الّذي يمثّله، لا على صعيد إيران فحسب، بل على صعيد العالم الإسلامي…
لقد اعتقد العدوّ الصهيوني أنَّه قادر على تحقيق أهداف هذا العدوان من خلال اغتياله للقيادات العسكريّة والأمنيّة والعلميّة، والاستهدافات الّتي يقوم بها، لدفع إيران للاستسلام والقبول بالإملاءات والشّروط الّتي تفرض عليها، لكن جاء الرّدّ القويّ على ذلك من الجمهوريّة الإسلاميّة، ليؤكّد لكلّ من يعنيهم الأمر أنّها ليست سهلة المنال، وأنّها قادرة على ردّ هذا العدوان ومنعه من تحقيق أهدافه، متسلّحة بإيمانها وتماسك شعبها وصموده، والّذي يثبت كلَّ يوم وقوفه خلف قيادته وقواه العسكريّة والأمنيّة، رغم كلّ الجراح الّتي نزفت، وحجم الضّربات الّتي يتعرَّض لها.
مسؤوليّة الدّول العربيّة
إنّنا أمام ما يجري، نأمل أن تؤدّي المفاوضات الّتي تجري، أو تلك الّتي ستجري، إلى نتيجة تنهي هذه الحرب الّتي فرضت على الجمهوريّة الإسلاميَّة في إيران، وتمنع من تداعياتها الخطيرة على صعيد المنطقة والعالم، ولا سيَّما إذا قرَّر الرّئيس الأميركي الدخول في المعركة.. في الوقت الّذي نؤكّد إدانتا لما تتعرّض له الجمهوريّة الاسلاميّة من اعتداء وظلم وتدمير لقدراتها، ونحن نقول ذلك لا من منطلق طائفيّ أو مذهبيّ أو سياسيّ، بل من موقفنا الإسلاميّ والإنسانيّ الّذي يدعونا إلى الوقوف في وجه الظّالم ونصرة المظلوم، ومن باب حرصنا على أمن العالم واستقراره، وحقّ الشّعوب في السّيادة على أرضها وامتلاك قرارها الحرّ.
ونحن، في هذا الإطار، نريد للعالم العربي والإسلامي أن يتجاوز أمام ما يجري، كلّ الاعتبارات السياسيّة أو المذهبيّة أو القوميّة، والّتي قد تحول دون اتّخاذ مواقف إلى جانب المظلوم، وأن لا يقف الأمر عند حدود الإدانة لما يجري والخوف من توسعته، بل من خلال تبنّي مواقف أكثر صرامة تثني العدوَّ عن الاستمرار في عدوانه، وهو الّذي إن حقّق ما يسعى إليه، ستكون له اليد الطّولى في المنطقة، وسيكون المهيمن عليها، وسوف يكرّر هذه الاستباحة في أيّ بلد عربيّ وإسلاميّ يسعى إلى بناء قوّته، أو أن يكون له حريّته واستقلاليَّته، أو أن يجاهر بالوقوف مع ظلامة الشّعب الفلسطيني… ودائمًا نقول لهم أن يتذكّروا القول: أُكلت يوم أكل الثور الأبيض.
انتهاك مستمرّ للبنان
ونعود إلى لبنان الّذي يستمرّ العدوّ الصّهيوني باستهدافه، عبر الاغتيالات الّتي لا تتوقّف، وبطائراته المسيّرة الّتي تجوب المناطق اللّبنانيَّة، والّتي تحمل بمضمونها تهديدًا حقيقيًّا للوطن بكلّ أطيافه ومذاهبه ومواقعه السياسيّة، رغم أنّ لبنان ومعه المقاومة، لا يزال، ورغم كل تجاوزات العدوّ على السّيادة اللبنانيّة، على التزامه باتّفاق وقف إطلاق النّار، وتنفيذ كلّ مندرجاته، من موقع الحرص على حفظ الأمن للّبنانيّين.
إنّنا نجدّد دعوتنا الدَّولة اللّبنانيّة أن تؤكّد مصداقيَّتها من خلال العمل الجادّ على إيقاف نزيف الدَّم والدّماء والتّرويع للمواطنين واستعادة حريّتهم في التّواجد في قراهم، فلا يجوز بعد أكثر من ستّة أشهر من وقف إطلاق النّار أن يستمرّ انتهاك السّيادة اللّبنانيّة والعبث بحياة اللبنانيّين ومقدّراتهم.
خطاب مرفوض
ونحن على هذا الصّعيد، نؤكّد مجدّدًا دعوة اللّبنانيّين إلى الامتناع عن أيّ خطاب استفزازي وإقصائي، ممَّا سمعناه أخيرًا ويمسّ طائفة متجذّرة في هذا البلد، وشاركت في بنائه، وقدّمت التّضحيات الجسام ولا تزال من أجل سيادته وحريّة إنسانه، إنَّ من المعيب أن تخرج هذه الأصوات من دون أن تدان أو تتَّخذ الإجراءات بحقّ مطلقيها.
إنّنا نعي مدى الاختلاف الجاري في هذا البلد على خياراته، ولكن هذا لا يجوز مقاربته بخطاب التَّخوين أو الرّفض للآخر أو الإقصاء، والّذي يؤدّي إلى مزيد من الشَّرخ والانقسام، ومن تصاعد هواجس اللّبنانيّين بعضهم تجاه بعض، ويقدّم خدمة مجّانيّة لمن يريدون لهذا الوطن أن يبقى بحال اهتزاز وعدم استقرار.